31

" الروميّ "

قد نتعتقد اننا نعيش حياة كاملة من جميع النواحي نوعاً ما ،
و قد نبقى على اعتقادنا هذا لفترة طويلة من الزمن ، إلى حين ان يأتي شخص و بنبهنا على شيء في غاية الأهم ، نحن نفتقر إليه ،

و يكون هذا الشخص مثل تعكس لك حقيقة روحك ، و ما هي بحاجة لها ،

انت لا تعرف من قد يكون هذا الشخص !
، ربما يكون قريباً ، او صديقاً ، او حتى طفلاً صغيراً ،
و لن انسى الآن جملة سمعتها ذات مرة من احد اساتذتي :
" من المهم أن تجد المرآة الخاصة فيك . "

و بعد ان التقيت بشمس ، تأكدت تماماً أنا هو مرآتي التي انا بحاجة إليها .

و على الرغم من انني عالم تعلّم الكثير من انواع العلوم ،
لكني لا انكر انني كنت اشعر انني افتقر لشيء داخلي ،

لقد جعلني شمس أبحث في داخل روحي لكي أعرف نفسي جيداً ،
كما لو أنه كان يقول لي :
" عليك ان تعيد وضع التعارف التي وضعتها للمضي معها طوال حياتك ،
عليك ان تنسى كل شيء سابق تعلمته "

و لسبب ما يجهله عقلي ، لم أكن اغضب من شمس او اعترض على اي مما يقول ،

ربما لانني أدركت شيئاً في شمس لم يُدركه مل من حولي فيه ،

إن شمس عزيز عليّ حقاً ، و كم كنت اتمنى لو يشاركني من حولي في ما اجده في شمس من محبّة و رحمة ،

لكن شيئاً من هذا لم يحدث ، لذا و في الحقيقة شعرتُ بشيء من الخيانة ، و ان احداً من حولي لا يقف بجانبي ،

كنت أريد أن أجد طريقة أصف فيها حقيقة شمس لمن هم من حولي ، من عائلتي و تلاميذي و غيرهم ، لكني كنت اعجز عن ذلك في الحقيقة ،

و الأمرُّ من ذلك أن الناس بدأوا يحكمون على شمس من الاشاعات التي لا علم لهم بأصلها ،
فقد كانوا يرون ان شمس دريش غريب الأطوار ، يتجول هنا و هناك ليثير المشاكل ،

و يرون ان تصرفاته غريبة ، لا مبرر لها ، و ان أقواله عبارة عن كفر محض ،

و يعتبرونه شخصاً مُتقلّباً لا امان له و لا يثقون به ابداً ،
و الحقيقة كانت عكس ذلك تماماً .

كان شمس صاحب قلب كبير قد يسع جبلاً او أكثر ،
و قد ملأ كل قلبه هذا بعشق الله العظيم .

احياناً كان شمس يبدو مثل قنبلة متفجرة تنشر الشظايا بكلّ مكان ،
و احياناً أخرى ، كنت اراه ينسحب عن كل العالم و ينطوي عنه لكي يختلي وحيداً .

إن لقاء شخص مثل شمس شيء لا يحدث إلّا مرّة واحدة في الحياة .

و كان من حولي يسألونني عن ما الذي اجده في شمس بالتحديد ،
لكني ما وجدت إجابة لهذا السؤال ، و حتى لو اجبتهم فلن يفهموا ،

إن شمس مثل نبع الحياة الجاري تماماً ،
و مثل شجرة السرو التي تزدان بالخضرة دائماً ، في كل أيام السنة ، و لا تذبل ابداً ،

و بسبب الضجة التي يُحدثها مَنْ هم مِن حولي ، تذكرتُ قصة هارون الرشيد ، و ليلى محبوبة قيس ، حيث وصلت قصة عشق قيس لها مشارق الأرض و مغاربها ،

مما دفع هارون الرشيد ان يتساءل بشدّة عن ماهية هذه المرأة ، و كان يقول ترى هل هي مثل حوريات الجنة لكي يهيم بها قيس هكذا ؟

و ذات يوم استدعاها هارون الرشيد إلى قصره ، و لما كشفت عن وجهها أمامه ، كانت امرأة عادية جداً ، و لم تكن مميّزة بأي شيء ، و هناك أمثالها الكثير من النساء ،
فشعر بشيء من خيبة الأمل ،

و سألها :
" هل أنتِ ليلى ؟
إني لا أرى ما وجده قيس فيكِ لكي يفقد صوابه هكذا ،
بل أراكِ امراة عادية ، و لا ارى ما يستدعي جنونه فيكِ . "

فأجابته بقولها :
" اجل أنا ليلى ،
لكنك إذا أردت أن ترى ما المميّز فيَّ ، فعليك أن تنظر إليَّ بعيني المجنون ، و هكذا سوف تفهم معنى الحبّ . "  .

و هذا هو حالي انا و شمس و مَن حولي ، فمن يريد أن يعرف شمس حقاً ،
فعليه ان ينظر إليه بعيني المجنون ،
فهل من سبيل لكي يفهموا ذلك ؟
لا اعتقد ذلك ، فإن لم تكن محبوباً ، فلن تستطيع أن تفهم معنى الحب ،

و لا يمكن تفسير الحب بالكلمات ، لكن يمكن للحب تفسير كلّ شيء .

..........

" كيميا ابنة صديق الروميّ "

مضت فترة دون أن يعطيني الروميّ أي دروس ، و قد انتظرته بصبر ،
و كان إهماله لي واضحاً ، و أصبحتُ أفتقد دروسنا كثيراً ،

لكني لم اشعر بأي انزعاج ابداً ، ربما لأني أحبه و احترمه كثيراً ،
أو لأني شعرتُ أنني افهمه قليلاً لسبب ما ،

و مع هذا ، كنت في نفس حيرة الجميع حول شمس التبريزيّ ،
فالرومي كان يتبعه كما يتبع دوار الشمس أشعة الشمس تماماً ،

فقد كانت علاقة قوية و واضحة تجمعهما ،
و كان ، و ثمّة شيء مميّز يجمعهما ،
و كان من الصعب على مَن في البيت أن يتحمّل الوضع هكذا ،

ولا سيّما علاء الدين ، الذي لم ينفك عن نظرات العداء الواضحة لشمس ،
و كان القلق يعتري كيرا بشكل واضح ايضاً ،
لكنّها و بكلّ احترام كعادتها، لم تنطق أي شيء ، لكن كنا جميعاً كمن يجلس على طاولة بارود  .

و الغريب ان شمس لم يكن يعرف أنه هو سبب كل هذا التوتر في البيت ،
او أنه كان يعرف ، و لم يكن يهتم بشيء .

و في قرارة نفسي كنت احمل عِتاباً في داخلي على شمس ، لأنه قد أخد الرومي منا ،
و من جهة أخرى ، كنت اتلهّف لمعرفة هذا الشمس أكثر .

و في المساء ، كنت واثقة ان الرومي لن يحضر لتدريسي ،
لذلك عزمت على ان ادرس بمفردي ،
و امسكت المصحف ، و فتحتُ صفحة لا على التعيين  من صفحات سور القرآن ،

مع أنني و الرومي كنا نتبع ترتيباً معيناً من قبل ، لكن هكذا خطر لي هذه المرّة ،

لكني واجهتُ بعض الصعوبة بدراستها بمفردي ، و فهم معانيها ،
فقلت لنفسي لمَ لا اذهب و أساله الرومي ،

صحيح انه لا يقوم بتدريسي الآن ، و لكن لا بأس بسؤاله بعض الأسئلة ،

فتوجهت إلى الغرفة التي يكون فيها عادةً ، و لما دخلت لم أجد الرومي هناك ،
بل وجدت شمساً يجلس بقرب النافذة ، و يحمل مسبحةً في يده ،
و ينظر للأفق و نسمات الغروب قد سطعت على وجهه ،
و بدت ملامحه واضحة بشكل فريد بالنسبة لي هذه المرّة ،

لقد كان وسيماً ، لدرجة أنني قد اشحتُ بنظري عنه واعتذرت منه ، و قلت له انني كنت ابحث عن مولانا لأسئله بعض الأسئلة ،
و طالما أنه غير موجود ، فسوف أعود لاحقاً .

و لمّا هممتُ على الرحيل ، اوقفني شمس بقوله :
" طالما لديكِ سؤال ما ، فلمَ لا تسألينني ، فقد استطيع مساعدتك . "

كيميا :
" كنتُ أقرأ بعض الآيات من سور القرآن ، و تساءلت عن سبب اختلاف التفاسير لبعض العلماء ؟ . "

فنظر لي شمس باهتمام و قال :
" هل الأمر كذلك ؟ "

و بعد ان صمت برهة ، قال لي :
" هل سبق لكِ ان غصتي إلى عمق نهر ما ؟ " 

و عندها تذكرتُ نهر جبال طوروس ، التي يُذهب العطش بمائه العذب البارد ،
و النزهات الجميلة التي كنت اقضيها مع اختي و رفيقاتي على ضفافه هناك ،
لمعت على ذهني كل تلك اللحظات الجميلة ، التي لا أكاد انساها مدى عمري ،

و للحظة ابتلت عيناي بالدموع ، لكني كتمتها و امتنعتُ عن البكاء امام شمس .....

شمس :
" كيميا العزيزة ،
عندما تنظرين إلى النعر من بعيد ، فقد ترين مجرى واحداً له فقط ،
اما عندما تغوصين إلى عمق نهر ما ، فسوف ترين عِدّة تيارات تشكّل عِدّة مجارٍ كذلك ،

و هكذا هو القرآن الكريم يا عزيزتي ، عندما تنظرين إليه بعيني قلبك المفتوحة ،
فأنتِ ستجدين اكثر من معنى ، و أكثر من تفسير واحد ،

أما عندما تنظرين إليه بعينين مجرّدتين مغلقتين ، فربما لن تستطيعي فهم اي معنى .

كيميا :
" ما الذي سيحدث يا ترى لو غضتُ إلى اعمق نقطة ممكنة في بحر القرآن ؟ "

" ما الذي سيحدث ؟ ما الذي سيحدث ؟ "

ردد شمس هذه العبارة عدّة مرّات و كأنّه يستمتع بها ، و هو ينظر إليَّ بعينيه الداكنتين الحنونتين ...

شمس :
" مثلما قلتُ لكِ ، إن القرآن نهر متدفق ،
و ما سيحدث لو غصتِ فيه فهو امرٌ عائد إلى ما أنتِ عليه ،

فهناك من يسبح عند سطح النهر دون أن يرى أي شيء ، و هو الغالب على الكثيرين ،

و هناك مَن يذهب لأبعد من ذلك ،

لكن هناك الذي يذهب إلى ابعد عمق ، و هو الذي سوف يرى و يعرف ما لا يعرفه غيره من البشر .

و هناك صنف رابع ممن يسبح في هذا النهر أيضاً .

فقلت لشمس انني لم افهم تماماً .
لكن كلماته قد لامست فكري ، و لم تكن غريبة عليَّ لسبب ما .

" في سورة النساء ...... "

قلتُ هذا لشمس ثم صمتُ .

فابتسم و قال :
" اخبرتك كذلك ان الذين يسبحون على السطح و هم كُثر ، يقنعون بالمعنى الظاهري فقط ،
و يفسّرون القرآن تفسيراً حرفياً .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي