5

قاطعت إيلا شجارهما اللطيف ، بقولها :
" حسناً أيها الجميلان ، لا نريد أن نتأخر ، و لنكمل شجارنا لاحقاً . "

آندر : أنتِ تغارين مني صحيح ؟

ليزلي : غبي ، أنت لا تعلم مقدار جاذبيتي بعد ، حتى ليون يراقبني منذ فترة ، و يتمنى أن يحظى بمحادثة معي فقط .

وقف آندر يفكّر للحظة ، و تمتم قائلاً :

" قلت ليون إذاً يا ساذجة ، أنا سأتعامل معه بطريقة يفهمها جيداً . "

" هل تعطّل دماغكَ الآن ؟ ، سنتأخر أيها الشيطان .... "

بعد أن غادرا ، عاد الهدوء التام للمنزل ، دون أيّ خبر من روز ، أو أليكس ....

كان يوماً مشرقاً جميلاً ، بجو صافٍ و نسمات لطيفة ،

و قبل أن تبدأ إيلا بعملها المنزلي المعتاد ، ركضت نحو الهاتف ثانية دون تفكير ، و اتصلت بروز ....

رن الهاتف لبرهة من الوقت ، لكن لم تتلقَ إيلا إلا دراً من المجيب الآلي ، و الذي طلب منها ترك رسالة صوتية ....

" آه ، أنا .. "
تلعثمت إيلا قليلاً ، و توترت لعلمها أن المسجل سيعمل لعدة ثوانٍ فقط ، أي لا وقت لديها لتفكّر بما ستقول ...

" أعتذر بشدة يا ابنتي ، أنا حقاً آسفة ،
عندما طلبت من ليام ترككِ ، لم أحسب حساباً لمشاعرك ، لكني و بصدق لم أكن أنوي إيذاءك ، أردت أن تعلمي هذا فقط ،
و أرجو أن تكوني بخير صغيرتي .......
أظن أنّ الروتين الشبه يومي قد جعلني بائسة كما قلتِ لذا لم أتّخذ قراراً صائباً ....... "

إيلا نفسها تفاجأت من آخر جملة نطقتها ،
هي بنفسها اعترفت أنّها غارقة في الحزن ، دون وعي منها .

تسلّلت أشعة الشمس من الباب الزجاجي الكبير نحو إيلا ، و كأنّها تناديها للخارج ،

و مع أن إيلا كانت تخطط للتنزه مع كلبها جون ، لكنّها لم تكن بمزاج يسمح لها بالخروج للنزهة ،

و بعد برهة تذكّرت كاتب رواية " البحث عن الشمس ... " ، و أنّه كان يربي حيوانات أليفة إيضاً ، فشعرت بالفضول تجاهه ، و أرادت أن تعرف شيئاً عنه ، فتناولت حاسوبها المحمول ، و كتبت في محرك البحث :
ع . ز . ساراي

فظهرت لديها مدوّنته ....

كانت هذه المدوّنة تعجّ ببطاقات بريدية من أنحاء العالم ، و كل بطاقة قد احتوت على مقالة صغيرة عن المكان الذي أتت منه ، و فيها صور لأناس من مختلف الأعراق ....

تصفّحت إيلا كامل المدوّنة ، و علمت أن حرف " ع " هو اختصار لكلمة عزيز ، و هو اسمه ، و انّه كان يحبّ الدراويش ، فقد وضع صورة لأحدهم و علّق بجانبها بعبارات إعجاب ،
و رأت أيضاً إحدى قصائد جلال الدين الروميّ التي قام عزيز بنشرها ،
و علمت إيضاً أنّه مسافر في الوقت الحالي ،

و عندما أوشكت على الانتهاء ، لمحت بريده الالكتروني ، فقامت بكتابته بسرعة على دفتر صغير للملاحظات .


و في المساء قبل عودة الاطفال للمنزل ، قررت إيلا مراسلة عزيز ،
نظرت إلى بريده الالكتروني للحظة ، و من ثم دون تردد كتبت قائلة :


السيد : عزيز . ز . ساراي .

أدعى إيلا ، و أنا في الوقت الحالي أقوم بقراءة روايتك " البحث عن الشمس التي لا تغيب " ، فقد كلفتني وكالتي الأدبية بتدقيقها ،

و في الحقيقة أعجبت بروايتك بشدة ، و وجدت متعة بقراءتها ، و على أي حال فهذا هو رأي الشخصي و لا علاقة أو تأثير له على مدير الوكالة إن أراد نشر روايتك أو لا ،

فهمت أنك تهتمّ و تقدّس ما يسمى بالعشق ، و ترى أنه جوهر الحياة و ما إلى ذلك ،
حسناً و أنتَ حرّ في ما تعتقد ، و لست بصدد مناقشتك بهذا ،

لكن لست من أنصارك أيضاً في الحقيقة ، فبرأيي هناك ما هو أولى و أهمّ منه ....

بأيّ حال السبب الذي جعلني أراسلك الآن ، هو أنّ التوقيت الذي بدأت به قراءة روايتك ، تزامن مع الوقت الذي كنت أقوم به بأفعال تناقض ما كتبته أنت ، و كأنّ ما كتبته كان موّجهاً لي ، ربما يبدو هذا شيئاً غريبا و صعب التصديق ، لكن هذه هي الحقيقة ...

فعندما أخبرتني ابنتي أنّها ستتزوّج من شخص عشقته ، وقفت ضدها ، و عارضتها ، و قلت لها بالحرف ، أنّ الحب شيء يأتي و يذهب - على عكس ما كتبته في البداية تماماً - ، و نتيجة هي تكرهني الآن و لا ترغب برؤيتي ،

أعتذر لأني أُكلّمك عن مشاكلي الشخصية التي لا تخصّك ،

و حسب ما قرأت بمدوّنتك - حيث وجدت بريدك الإلكترونيّ هناك - ، أنّك الآن مسافر إلى مكان ما ،
كيف هو السفر لمكان ، بعيد و غريب ؟
أهو شيء بإمكانك الاعتياد عليه و الاستمتاع به ؟

على كلن ، أثناء سفرك إذا صادف و أتيت لبوسطن ، أتمنى أن تخبرني ، و سأكون سعيدة بلقائك و احتساء القهوة معك أثناء الحديث .
مع أطيب تمنياتي لك
إيلا .

في الواقع كانت رسالة إيلا أشبه بنداء استغاثة ، و كأنّها كانت تطلب منه القدوم ؛
حيث جلست تكتبها بصمت ، لم تبالي بكونه شخصاً غريباً لم تعرف ، و لم تره من قبل ....


و في الليل و عندما كانت إيلا تغطّ بالنوم ، رأت في حلمها أنّها تسير في مكان يعجّ بالناس - في مكان مشيّد ، كسوق قلعة ضخمة - ، و تبحث عن شيء ما ، أو شخص ما ، و حاولت أن تسأل أحدّ الباعة ، أو أحد الروّاد في السوق ، لكنّ لم يردّ عليها أيّ منهم ،

كانت تقول لنفسها ربما لأنني غريبة عن هنا ، فأنا لا أعرف احداً منهم ، ربما لغتهم مختلفة عن لغتي ،

فصادفت مرآة ، و نظرت إلى نفسها فيها ، و كانت المفاجئة أنّها بلا لسان ، فخافت بشدّة و راحت تركض هنا و هناك ،
" أيّ أحد ... فليساعدني أي أحد . "

و بلا جوى ، لهذا السبب لم يكن أحد يفهم عليها .

فهرهت مستيقظة من نومها على صوت مزعج ، و نظرت إلى الساعة المجاورة لسريرها ، و العرق يتصبب من جبينها ، فكانت الساعة الثانية و النصف ،

كان كلبها جون ينبح بصوت مزعج ، لقد كانت شاكرة أنّ صوته قد أنقذها من ذلك الحلم ، لا بل كان كابوساً ، و مع أنّها استيقظت إلا أنّ المشاعر الغريبة و الشائكة ، التي راودتها أثناء نومها ، ما تزال عالقة في ذهنها .

نهضت من فراشها و خرجت إلى الفناء الخلفي ، أرادت أن تستنشق بعض الهواء النقي ، لعلّها تُهدّئ من روعها ،

ثم توجّهت إلى جون لتعلم ما الذي جعله ينبح بهذه الطريقة ، لعلّه كان خائفاً من بعض الطيور كالمرّة السابقة ،
" حسناً ، أهدأ أيها المدلل ، أظنّ أنّ حالي و حالك واحد هذه المرة "

وقفت إيلا لبرهة من الوقت إلى جانب جون ، و نظرت إلى باب المنزل الذي خرج منه كلٌّ من أليكس و روز ، و لم يعودا ، أو يبعثا بخبر حتى الآن ، و طنّت أنهما قد تركاها إلى الأبد ...

كانت السماء صافية ، و مُرصّعة بالنجوم ، و كأنّها لوحة من الجنة ،
و كان المصباح الذي عند المدخل يعكس ضوءه القرميدي على أوراق شجرة النارنج التي ملأت المكان برائحتها العطرة ،

و كل نسمت تهبّ كانت تداعب شعرات إيلا ، و بدا أنّها تحاول ملاطفتها ...

لكن إيلا لم تستطع تذوق هذا الجمال ، لما في قلبها من فراغ ، أو وحدة ربما ، أو شوق لشيء ما ،

كان هناك شيء ينقصها بكل تأكيد ، و هنا تذكّرت أن هذه العبارة قد ذُكرت في رواية " البحث عن الشمس التي لا تغيب " ،

" مهما كنا ، و مهما امتلكنا ، و أين ما عشنا ، كل واحد منا و بكل تأكيد سيعلم في قرارة نفسه أنّ شيئاً ينقصه ، كما لو أنّه كان يمتلك ذلك الشيء و فقده ، و الآن عاد للبحث عنه ، و في الغالب لا يدرك المرء ذلك الشيء ، لذا لن يستطيع البحث عنه و إيجاده أصلاً ،

لكن الذين لديهم القدرة على البحث عن ذلك الشيء ، فقلّة قليلة منهم ممن يمتلكون الشجاعة و الإقدام لتكريس أنفسهم ، و الخروج بحثاً عن ذلك الشيء .... "

إيلا : ما زلت أتعجّب من هذه الرواية و من ذلك العزيز ، فروايته ما زالت تلامس حياتي و مشاعري بشكل لا إرادي ، ترى كيف يكون ؟ .


عاد أليكس - الذي لم يزل على غير طبيعته من ذلك اليوم - في الصباح ، و عندما دخل إلى غرفته وجد إيلا نائمة و الرواية في حضنها ، و قد كان واضحاً أنّها نامت و هي تقرؤها ، اقترب منها قليلاً و أمسك بالغطاء و أراد أن يغطيها ، لكنه تردد و تراجع ....


و بعد ربع ساعة ، استيقظت إيلا و قد رأت أليكس يستعدّ لارتداء ملابسه التي سيخرج بها ، و بدا أنّه قد خرج لتوه حوض الاستحمام ، فلا زال شعره مبللاً قليلاً ،

و قد عادت للتظاهر ، بالنوم إلى حين خروجه من الغرفة ، فهي لم ترد أن تتعب نفسها بمجادلته على سبب قضاءه كل هذا الوقت خارج المنزل ، فذلك بلا فائدة ، لأنّها تعلم أين كان ، و ماذا كان يفعل ،

و هكذا خرج اليكس و الأولاد بعد الفطور ، دون حصول أيّة مصادمة ثانيةً ....

عندها ذهبت إيلا لتفقّد بريدها الإلكتروني قبل أن تخرج للتسوّق ،

حلست على الأريكة و أحنت ظهرها إلى الأمام ...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي