33

اتفق شمس و الروميّ على اداء صلاة الفجر في اطراف قونيا ، بعيداً عن أي ضجيج .

فخرجا في ظُلمة الليل ، و امتطى كلّ منهما حصانه ،
و مَشيا في انحاء قونية ليلاً ،
و القمر يُضيء طريقهما ،
حتى وصلا لأحياء قونية الفقيرة ،
و التي ربما لم يسبق للرومي الذهاب لها ،

لذا كان الروميّ يلتفت يمنة و يسرة ، و ينظر من حوله لتلك الأماكن ،

كانت بيوتاً قديمة متداعية نوعاً ما ،
و أسواراً من طين نصف محطّمة ،
و البعض منها قد نمى بجانبه بعض الورود و النباتات بعناية .

و في وسط ذلك السكون الذي لم يكسره شيء ، غير حفيف بعض الملابس التي كانت معلّقة على حبل بيت قروي قد مرّوا بجانبه ، كان الهواء البارد يصفع وجهيهما ،

و بعد ان اجتازا تلك المنازل ، ابتعدا اكثر ،
لقد عبرا حقولاً و جداولاً ذات ماء بارد و عذب ، و بعض الأنهار .

كانا و كأنّهما قد وصلا لجميع جهات العالم بهذه الرحلة .

و بعد أن وصلا لأبعد مكان تقريباً ، عادا أدراجهما ،
و لكن في عودتهما عليهما أن يشاهدا نفس الأشياء التي شاهداها في ذهابهما ،
و لكن بطريقة مختلفة هذه المرّة .

و هما في طريق العودة ،
توقّف شمس عند شجرة كبيرة و ابتسم ،
ثمّ نزل عن حصانه ، و ربط رسنه ، و كذلك فعل الروميّ ،

ثم مدَّ شمس عباءته على الأرض و جلس عليها ،
و قال للرومي :
" أتعلم ، عندما أتيت لقونيا اول مرّة جلست تحت ظلّ هذه الشجرة ،
ثم التقيتُ هنا بفلاح تكلّم لي عنك ،

و قد كان من أشدّ المعجبين بك ،
و أخبرني ان كلماتك مثل الدواء بالنسبة لهم . "

الروميّ :
" بخصوص ذلك يا شمس ،
لقد كان بعض الناس ينادونني بساحر الكلمات ،
كهذا كانوا يقولون ،
لكني الآن لم أعد أريد أن أُلقيَ أيّ خُطب ،
ليس بعد الآن أبداً . "

شمس :
" ربّما لم يكونوا مخطئين بكلامهم ،
لكن الأمر مختلف الآن أيها الروميّ ،
ففي السابق كانت كلماتك تساعدهم ، أما فقد حان دوري لمساعدتك ،

سوف أكون خادمك أيها الروميّ . "

فقال له الروميّ مُحتجّاً :
" لا تقلْ ذلك ابداً ، أنتَ صديقي العزيز يا شمس . "

لكن شمس تجاهل كلام الروميّ ، و تابع بقوله :
" إن ما يقلقني ، هي الدائرة المغلقة التي عشتَ فيها أيها الروميّ ،

و لأنك عالم جليل ، و خطيب معروف ، لم يكن يوجد من حولك إلا تلاميذك ، و مُريدوك ،
و مَنْ يحبك .

لكن أخبرني ، هل تعلم شيئاً عن المتسولين ،
و التائهين ، و أولئك الذين يرتادون الحانات و امثالهم !

هل تعلم شيئاً عن حالهم ؟ !
"
الرومي :
" اصبتَ بقولك يا شمس ،
أنا ربما لا اعرف تماماً كيف يعيش الناس العاديون . "

شمس :
" يوجد في كل مكان أناس يكافحون بمفردهم ، دون ان يوجههم أحد لما عليهم فعله .
و هم حقاً بأمسّ الحاجة لمن يمدّ لهم يد العون و يساعدهم ،
أولئك الأشخاص لا عزاء لهم ، و هم يتعرّضون لأشدّ أنواع البؤس الظلم ،

إن ما علينا فعله أولاً ، هو أن نحبّ مخلوقات الله جميعاً ،
لكن هل نستطيع فعل ذلك ؟ . "

عندما قال شمس هذه الكلمات ، التي كانت تنبع بالرقة و الحنان و العطف ،
حتى أن الرومي قد شعر أن أم لاولادها هي من كانت تحدّثه ، و ليس ذلك الرجل الشامخ شمس .

حمل شمس حفنة من التراب في يده ،
ثم تركها تنساب من بين أصابعه شيئاً فشيئاً .....

" كما قلتُ لك أيها الرومي ، كانت كلماتك من قبل تساعدهم ،
ثم خان دوري لمساعدتك الآن . "

بعدها ارتفع صوت أذان الفجر من مآذن قونية الباسقة القريبة ،
فقام كل من الرومي و شمس لآداء الصلاة .

و بعدها تابعا حديثهما ،
و لما بدأت خيوط الصباح تتكشّف أكثر ،
و بدأت الشمس تطلّ بخيوطها الارجوانبة و الذهبية على الأرجاء ،

استكملا طريقهما في العودة ،
و بدأت المدينة تستيقظ ببطئ ،
و بدأت الابواب تتفتح ، و مواقد المنازل تشتعل ،
و مع شروق الشمس أكثر ،
كانت هذه اشارات تدل على انطلاق يوم جديد .

ثم اختتم شمس رحلتهم هذه بكلمات كانت شبه اللغز للروميّ .

شمس :
" إن الكون كائن واحد ،
و الجميع يرتبط بشبكة خفيّة ،
إن معاناة إنسان واحد تؤذينا جميعاً ،
و سعادة إنسان واحد تجعلنا نبتسم ،

هكذا تقول إحدى القواعد الأربعين .

ذات يومٍ أيها الروميّ ، سوف تُعرف بصوت الحب ،
و سوف تجد نفسك معروفاً في المشرق و المغرب ،
و لكن بشيء غير خُطبك ، و علمك ،
بل بكلمات من البيان . "

لقد شعر الرومي بشيء من الحزن في كلام شمس ، و لكنه و بدون سبب لم يسأله عن سبب هذا الحزن .

الروميّ :
ماذا تقصدك بكلامك يا شمس ؟
فكما تعلم ، انا لم اقم بإلقاء أي شعر في حياتي كلّها !!
"

شمس :
" يا صديقي ، سوف تكون احد اجمل الشعراء الذين سوف يعرفهم هذا العالم . "

الروميّ :
" لا اعلم ما تقصده تماماً ، و لكن أيّاً يكنِ الأمر ،
سوف نمشي في هذا الطرق معاً . "

عندها لاذ شمس بالصمت دون اي ، تعليق و نظر إلى الأفق ،

مما جعل الرومي يشعر بشيء من الخوف لسبب ما غير معروف ،
و الذي زاد من خوفه عندما نطق شمس بهذه الكلمات :
" آه لو تعلم كم أتمنى ان اكون معك في هذا الطريق ،
لكني اعتقد أنك سوف تكون لوحدك . "

فاندفع الرومي بقوله :
" لماذا ؟!
ثمَّ إلى أين قد تذهب يت شمس ؟ ! "

شمس :
" إن الأمر ليس بيدي أيها الرزميّ . "

عندها هبّت.الريح بشكل أقوى مما كانت عليه ،
ثم بدات قطرات من المطر بالهطول ،
كانت تلك القطرات رقيقة لطيفة ،
و لأول مرّة خطر للرومي أن شمس قد يغادر يوماً ،

لم يفكر بهذا الأمر من قبل ، و لم يخطر بباله حتى ،
لكن لمَ الآن ؟

التفكير في هذا جعل صدره يضيف ، و قلبه يتألّم .

..........

كان شمس يرى أنَّ شهرة الرومي بين الناس ليس فقط لا فائدة منها ،
بل هي ضارّة له أشدّ الضرر ، و الآن عليه التخلّص منها تماماً ، و إخراجها من قلبه ،
فالرومي لم يسمع كلاماً من قبل ، و لم يكن أحد يُحرجه ، أو يتكلّم عنه بسوء بوجهه ،

و لزيادة صبر و تحمّل الرومي ، و تعلّمه كيفيفة تقبّل الناس كما هم ، و على حالهم مهما كانوا ،
كان على الروميّ أن يواجه هذه الأمور ، و أن يصبر عليها .

.......

في هذه الأثناء ، بدأت شوارع قونية تزداد برودة أكثر فأكثر ،
و الناس يقولون أن هذا البرد القارص لم يأتِ عليهم منذ أربعين سنة ،
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي