13
" التلميذ الشابّ "
......
لولا وجود شخص مثل شمس ، لكنت غادرت هذا المكان - التكية - منذ زمن طويل ،
ففي ذلك اليوم ، عندما هربت من الطاهي ، و توجّهت إلى الطرق المتعرّج ركضاً ، و لقد كانت هذه أوّل مرّة لي أخرق فيها قواعد الطاهي ،
نلت جزائي منه ، بأعواد شجر الخيزران .....
لكنّي أردت أن أعرف شخصاً مثل شمس أكثر ، فبقيت
، فمنذ اليوم الذي قدِم فيه إلى التكية ، وجدت أنّه الوحيد الذي يليق أن يكون قدوة في هذه التكية ،
شمس لم يكن يخشى من أحد ، و لم يكن يطيع أحداً ، بل كان حرّاً مثل الريح ، و بطلاً من أبطال القصص الخيالية بالنسبة لي ،
حتى كابوسيَ الطاهي كان يُكنُّ له الاحترام بشدة ،
، مع أنني أنا من أردت أن أكون درويشاً وديعاً في الماضي ، و عندما أخبروني أنّ هذا ليس بالأمر السهل ، لم أكن أتصوّر أن الأمر سيكون إلى هذا الحدّ ،
لقد كان تعذيباً لي ، و ليس تدريباً ، فقد كنت استيقظ قبل الجميع ، و أحضر ماءً من البحيرة ،
و أشعل الموقد الكبير ، و أعدّ حساءً يكفي خمسين شخصاً ، في قدور كبيرة كأنها سفن للإبحار ،
و خمّنوا من يقوم بتنظيف تلك القدور ،
بالإضافة لإعداد الخبز ، و التنظيف الذي لا ينتهي ، و الاعتناء بالبستان .....
كان الطاهي يخبرني دائماً و يقول :
" إن التنظيف صلاة ، و الصلاة تنظيف "
فرددت عليه مرّة واحدة باستهتار ، و قلت له :
لو كان الأمر حقاً كما تقول ، لأصبحت ربّات المنازل في بغداد من أعظم السادة الروحيين ، و لكانوا سبقوا الجميع .
فرَماني بإناء من الخشب على رأسي ، و قال لي : " هناك أمر آخر عليك أن تتعلّمه ، و هو أن تصغي ، و أن تخرس مثل هذه الخشبة . "
فلم أناقشه في شيء ثانيةً
لكن الآن لقد بتّ أريد أن أغدو مثل شمس ، بروعته ، و تمرّده ، و سحره الخاص .
لذلك عندما أتى الخريف ، و حان موعد مغادرة شمس ، حسمت أمري ، و قررت الرحيل معه ، فلا شكّ أنّ السفر معه سيكون أفضل من أي تدريب ،
لذا ذهبت إلى درويش التكية عبد الله ،
لقد كان يحمل ريشة في يده ، و يفكّر في شيئاً ما بعمق ....
فقال لي بصوت منهك ، و كأنّ مجيئي إليه قد زاد من تعبه : " ماذا عندك أيها التلميذ الشابّ ؟ . "
فأخبرته أني أريد أن أسافر مع شمس في رحلته ، فلا ضير في ذهاب مرافق معه .
فأخبرني المعلم بشكل مُرتاب :
" لم أكن أملك فكرة عن اهتمامك بشمس ؟ ! ، كما أن فترة تدريبك لتصبح درويشاً لم تنتهِ بعد ، أم أنك تريد الهرب من العمل في المطبخ و غيره ؟ . "
فقلت له : " إن مرافقة شمس ، هي أفضل تدريب لي يا سيدي الدرويش . "
قلت ذلك ، و أنا على علم أن ذلك قد يعدّ جرأة زائدة مني ، إلّا أني لم أتردد في قوله .
أحنى المعلم ظهره إلى الأمام قليلاً ، و بقي صامتاً ، و كلّما طال صمته ، كلّما اعتقدت أنّه سيرفض ، و سوف يوبّخني ..
الدرويش عبد الله : " أنا أظنّ أنّك لم تخلق لتكون درويشاً ، أتعلم يا بنيّ ، أنّه من بين كلّ سبعة اشخاص يأتون لكي يتدربوا ، من أجل أن يصبحوا دراويشاً ، لا يبقى منهم في النهاية إلّا شخص واحد ؟
، إحساسي يخبرني لن تستطيع الإكمال معنا في هذا الطريق ، لذا اذهب و ابحث عن نصيبك في هذه الحياة ، في مكان آخر ،
أما بالنسبة لموضوع مرافقتك مع شمس ، فهذا أمر عائد له ، إن أراد اصطحابك معه ؛ فليفعل ، و إلّا فلا كلام لي في هذا .
" أنا حقاً أحترمك يا معلملي " ، قلت هذا في نفسي ، و أنا أنظر إليه كم يبدو عليه الحزن ، و التعب .
فعلى الرغم من أنّه كان يوبخني أحياناً ، لكنّي لم ألمس حقداً ، او كراهية في كلامه يوماً ، لذا فإن صدري سليم تماماً نحوه .
.......
" الرّد على الرسالة "
السيّد برهان الدين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
زميلي العزيز ، و صديقي الحميم ، في البداية ؛ إنّي أشعر بالسعادة حقاً ، لأنك ما زلت وفياً لطريق العشق الإلهي ؛
لكن في الحقيقة ، رسالتك و وضعتني بموضع لا أُحسد عليه ، لأني ما إن وصلني خبرك ، بأنّك تبحث عن رفيق الروميّ ، حتى عرفتُ في الحال من يكون ؛
لكن الذي لم أعرفه ، هو كيف عليّ التصرّف إيزاء هذا الموضوع ؟ ، ...
فذلك الذي تبحث عنه ، هو درويش جوّال مقيم في تكيتي في الوقت الحاضر ؛ شمس التبريزيّ من تبريز ،
و الذي كان يقول لي ، أنّه لم يوجد في هذا العالم عبثاً ، بل يمتلك رسالة عليه أن ينشرها ، و أنّه خلال ترحاله لمدّة من الزمن ، أكسبته معرفة على معرفته ،
و أنّه يبحث عن رفيق ، لكي ينقل معرفته إليه ، حتى لا تذهب تلك المعرفة التي أعطاه الله تعالى إياها ،
أي أنّ مواصفات شمس ، تنطبق على مواصفات من تبحث عنه ، و أنّ الروميّ العالم الجليل ، هو الشخص الذي يبحث عنه شمس أيضاً ،
لكنَّ الله أعلم ! .
لذا قمت بعقد اجتماع ثلاث مرات ، في الشتاء ، و الربيع ، و الخريف ؛ حضر إليه جميع الدراويش ، و التلاميذ ، قصدت بهذا أن أمنح الجميع حقاً في الذهاب ،
تطوّع البعض منهم في أوّل اجتماع ، من بينهم شمسٌ طبعاً ،
و لم يثبت أحد على قراره ، و يُبدي إصراره و عزمه في كل مرّة ، غير شمس ، و حتى بعد أن بات على علم بأخطار رحلة كهذه ...
ربما سوف تسألني ، لمَ استغرقتُ كلّ هذا ، و أنّ عاماً تقريباً مدة طويلة لكي أفكّر ...
و دعني أقول لك هذا ، لقد كان قراراً صعباً جداً بالنسبة لي ، و لا يوجد تفسير لمماطلتي و عدم رغبتي في ذهابه ، حقيقةً غير أنّي تعلّقت بشمس و أحببه كثراً ، كأحد من ضلعي ، و يؤلمني فراقه إلى مكان قد لا يعود منه ثانية ، و لن أستطيع رؤيته ....
......
لولا وجود شخص مثل شمس ، لكنت غادرت هذا المكان - التكية - منذ زمن طويل ،
ففي ذلك اليوم ، عندما هربت من الطاهي ، و توجّهت إلى الطرق المتعرّج ركضاً ، و لقد كانت هذه أوّل مرّة لي أخرق فيها قواعد الطاهي ،
نلت جزائي منه ، بأعواد شجر الخيزران .....
لكنّي أردت أن أعرف شخصاً مثل شمس أكثر ، فبقيت
، فمنذ اليوم الذي قدِم فيه إلى التكية ، وجدت أنّه الوحيد الذي يليق أن يكون قدوة في هذه التكية ،
شمس لم يكن يخشى من أحد ، و لم يكن يطيع أحداً ، بل كان حرّاً مثل الريح ، و بطلاً من أبطال القصص الخيالية بالنسبة لي ،
حتى كابوسيَ الطاهي كان يُكنُّ له الاحترام بشدة ،
، مع أنني أنا من أردت أن أكون درويشاً وديعاً في الماضي ، و عندما أخبروني أنّ هذا ليس بالأمر السهل ، لم أكن أتصوّر أن الأمر سيكون إلى هذا الحدّ ،
لقد كان تعذيباً لي ، و ليس تدريباً ، فقد كنت استيقظ قبل الجميع ، و أحضر ماءً من البحيرة ،
و أشعل الموقد الكبير ، و أعدّ حساءً يكفي خمسين شخصاً ، في قدور كبيرة كأنها سفن للإبحار ،
و خمّنوا من يقوم بتنظيف تلك القدور ،
بالإضافة لإعداد الخبز ، و التنظيف الذي لا ينتهي ، و الاعتناء بالبستان .....
كان الطاهي يخبرني دائماً و يقول :
" إن التنظيف صلاة ، و الصلاة تنظيف "
فرددت عليه مرّة واحدة باستهتار ، و قلت له :
لو كان الأمر حقاً كما تقول ، لأصبحت ربّات المنازل في بغداد من أعظم السادة الروحيين ، و لكانوا سبقوا الجميع .
فرَماني بإناء من الخشب على رأسي ، و قال لي : " هناك أمر آخر عليك أن تتعلّمه ، و هو أن تصغي ، و أن تخرس مثل هذه الخشبة . "
فلم أناقشه في شيء ثانيةً
لكن الآن لقد بتّ أريد أن أغدو مثل شمس ، بروعته ، و تمرّده ، و سحره الخاص .
لذلك عندما أتى الخريف ، و حان موعد مغادرة شمس ، حسمت أمري ، و قررت الرحيل معه ، فلا شكّ أنّ السفر معه سيكون أفضل من أي تدريب ،
لذا ذهبت إلى درويش التكية عبد الله ،
لقد كان يحمل ريشة في يده ، و يفكّر في شيئاً ما بعمق ....
فقال لي بصوت منهك ، و كأنّ مجيئي إليه قد زاد من تعبه : " ماذا عندك أيها التلميذ الشابّ ؟ . "
فأخبرته أني أريد أن أسافر مع شمس في رحلته ، فلا ضير في ذهاب مرافق معه .
فأخبرني المعلم بشكل مُرتاب :
" لم أكن أملك فكرة عن اهتمامك بشمس ؟ ! ، كما أن فترة تدريبك لتصبح درويشاً لم تنتهِ بعد ، أم أنك تريد الهرب من العمل في المطبخ و غيره ؟ . "
فقلت له : " إن مرافقة شمس ، هي أفضل تدريب لي يا سيدي الدرويش . "
قلت ذلك ، و أنا على علم أن ذلك قد يعدّ جرأة زائدة مني ، إلّا أني لم أتردد في قوله .
أحنى المعلم ظهره إلى الأمام قليلاً ، و بقي صامتاً ، و كلّما طال صمته ، كلّما اعتقدت أنّه سيرفض ، و سوف يوبّخني ..
الدرويش عبد الله : " أنا أظنّ أنّك لم تخلق لتكون درويشاً ، أتعلم يا بنيّ ، أنّه من بين كلّ سبعة اشخاص يأتون لكي يتدربوا ، من أجل أن يصبحوا دراويشاً ، لا يبقى منهم في النهاية إلّا شخص واحد ؟
، إحساسي يخبرني لن تستطيع الإكمال معنا في هذا الطريق ، لذا اذهب و ابحث عن نصيبك في هذه الحياة ، في مكان آخر ،
أما بالنسبة لموضوع مرافقتك مع شمس ، فهذا أمر عائد له ، إن أراد اصطحابك معه ؛ فليفعل ، و إلّا فلا كلام لي في هذا .
" أنا حقاً أحترمك يا معلملي " ، قلت هذا في نفسي ، و أنا أنظر إليه كم يبدو عليه الحزن ، و التعب .
فعلى الرغم من أنّه كان يوبخني أحياناً ، لكنّي لم ألمس حقداً ، او كراهية في كلامه يوماً ، لذا فإن صدري سليم تماماً نحوه .
.......
" الرّد على الرسالة "
السيّد برهان الدين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
زميلي العزيز ، و صديقي الحميم ، في البداية ؛ إنّي أشعر بالسعادة حقاً ، لأنك ما زلت وفياً لطريق العشق الإلهي ؛
لكن في الحقيقة ، رسالتك و وضعتني بموضع لا أُحسد عليه ، لأني ما إن وصلني خبرك ، بأنّك تبحث عن رفيق الروميّ ، حتى عرفتُ في الحال من يكون ؛
لكن الذي لم أعرفه ، هو كيف عليّ التصرّف إيزاء هذا الموضوع ؟ ، ...
فذلك الذي تبحث عنه ، هو درويش جوّال مقيم في تكيتي في الوقت الحاضر ؛ شمس التبريزيّ من تبريز ،
و الذي كان يقول لي ، أنّه لم يوجد في هذا العالم عبثاً ، بل يمتلك رسالة عليه أن ينشرها ، و أنّه خلال ترحاله لمدّة من الزمن ، أكسبته معرفة على معرفته ،
و أنّه يبحث عن رفيق ، لكي ينقل معرفته إليه ، حتى لا تذهب تلك المعرفة التي أعطاه الله تعالى إياها ،
أي أنّ مواصفات شمس ، تنطبق على مواصفات من تبحث عنه ، و أنّ الروميّ العالم الجليل ، هو الشخص الذي يبحث عنه شمس أيضاً ،
لكنَّ الله أعلم ! .
لذا قمت بعقد اجتماع ثلاث مرات ، في الشتاء ، و الربيع ، و الخريف ؛ حضر إليه جميع الدراويش ، و التلاميذ ، قصدت بهذا أن أمنح الجميع حقاً في الذهاب ،
تطوّع البعض منهم في أوّل اجتماع ، من بينهم شمسٌ طبعاً ،
و لم يثبت أحد على قراره ، و يُبدي إصراره و عزمه في كل مرّة ، غير شمس ، و حتى بعد أن بات على علم بأخطار رحلة كهذه ...
ربما سوف تسألني ، لمَ استغرقتُ كلّ هذا ، و أنّ عاماً تقريباً مدة طويلة لكي أفكّر ...
و دعني أقول لك هذا ، لقد كان قراراً صعباً جداً بالنسبة لي ، و لا يوجد تفسير لمماطلتي و عدم رغبتي في ذهابه ، حقيقةً غير أنّي تعلّقت بشمس و أحببه كثراً ، كأحد من ضلعي ، و يؤلمني فراقه إلى مكان قد لا يعود منه ثانية ، و لن أستطيع رؤيته ....