20

" التلميذ " .

حالما انتهيت من حديثي مع درويش التكية عبد الله ، ذهبت و امتطيت الحصان ، و لحقت بشمس ، و أنا عازم كل العزم على أن أصبح تلميذه ، و ألّا أفارقه .

و بعد أن تمكّنت من اللحاق به ، بذلت ما بوسعي لكي أحافظ على مسافة بيني و بينه ، و لم أشئ أن يلحظني فوراً ،

و لمّا وصلنا إلى السوق الكبير لبغداد ، توقّف شمس هناك لينال قسطاً من الراحة ، و ليشتري بعض الحاجيات التي قد يحتاجها أثناء سفره ،
و فكرت أن أُظهر له نفسي الآن .
فارتميت أمامه بعد أن امتطى حصانه ، و طلبت منه مرافقته في رحلته .

بدا شمس متفاجئاً و لكن الابتسامة لم تفارقه عندما رأى التلميذ الشابّ ، و صاح من فوق حصانه ...

شمس : ما أمرك يا ذا الشعر الأحمر ؟ .

التلميذ الشابّ : أنا سأذهب معك يا شمس .

شمس : و هل لك علم إلى أين أنا ذاهب ؟ .

ارتبك التلميذ الشابّ ، حيث أنّه لم يخطر بباله سؤال كهذا ..... ، لكنّه تابع بإصرار .

التلمبذ الشابّ : لا أعلم ، و لا مشكلة عندي أينما ذهبت ، فأنا قد تركت تكية الدراويش ، و قررت مرافقتك لكي أصبح تلميذاً عندك يا شمس ، فأنتَ قدوتي .


شمس : لا أريد تلميذاً ، و لا ما شابه ذلك ، أشكرك ،
و لست قدوة لأحد ، و خصوصاً لك ، كما أني معتاد على السفر بمفردي ، فاذهب في طريقك

، و برأيي سيكون من الأفضل لك أن تعود لمنزل أهلك ، و تقوم بالبحث عن صانع ما ، و تتعلّم عنده ،
و قد تغدو تاجراً ماهراً يوماً ما ، لكن لا تكن طماعاً .

و احذر ، فإحدى قواعدي تقول : " هناك معلّمون و أساتذة مزيّفون في هذا العالم كعدد شعر الرأس ، - هذا إن لم يكن أكثر - فانتبه ، و ميّز بين المعلم المزيّف الأنانيّ ، الذي يعمل بدافع الجاه و حسب ، و بين المعلّم الصادق .

فالمعلّم الصادق لا ينتظر منك طاعة تامة ، أو أن تعجب به إعجاباً مطلقاً ، و لا يوجهك إلى النظر إليه فقط ، بل هو يُعينك على تقدير نفسك و المحافظة عليها ، و احترامها .

إن المعلّمين الحقيقيين ، شفافون ، و صافون مثل الماء الزلال ، و بذلك يستطيع النور أن يعبر من خلالهم إليك مباشرةً . "

التلميذ الشابّ : أي صانع ، و أي معلّم ؟ ! ، أتوسل إليك أن تسمح لي بمرافقتك يا شمس ، و صدقني سأكون مطيعاً ، و لن أزعجك أبداً .

ثم إنّ كلّ رحال يحتاج لمرافق أو خادم على الأقل .

وضع شمس يده على ذقنه مفكّراً ، فما قاله صحيح ، ثمّ ضيّق عينيه و نظر إلى التلميذ الشابّ ....

شمس : قلت أنّك تريد مرافقتي ، فهل لديك القدرة على ذلك ؟ ....

وثب التلميذ ، و وقف على قدميه بعزم و كلّه ثقة بنفسه ، قائلاً :
" يمكنك أن تكون على كامل الثقة بذلك . "

شمس : حسناً ، ليكن إذاً ، إليك مهمّتك الأولى .

أنتَ سوف تذهب إلى أقرب حانة ، و تحضر زجاجة مملوءة بالخمر ، ثمَّ تأتي بها ، و تشربها هنا ، أمام أنظار جميع مَنْ في السوق .


شمس لم يكن يعني ما قاله حرفياً ، لكنّه أراد بذلك اختباره ، لكي يتأكد إن كان سعي التلميذ الشابّ في هذا الطريق صادقاً حقاً ، أم أنّ كل ما يهمّه هو كلام الناس ، و آراؤهم فيه ، فإن كان كذلك ، يستحيل على شمس مرافقة شخص مثله مهما كان ، فهو لا يحتمل ذلك .

" التلميذ الشابّ "

تجمّدت في مكاني و تلعثمت قليلاً ، و قلت لشمس : " ما الذي تقوله يا رجل ؟
، خمر ! !
، لقد أرسلني والدي إلى تكية الدراويش لكي أصبح رجلاً صالحاً ، و ليس فاسقاً فاجراً ،
ثم ماذا سوف يقول كل هؤلاء الناس عني ؟
، و أصدقائي و عائلتي ؟ ،
و إذا علم والدي بذلك ، فأهوَن شيء سوف يفعله هو كسر رقبتي ! .

فنظر إليّ شمس بنظراته الحارقة ، كما في تلك الليلة تماماً ،
عندما كنت اتنصت عليه من خلف الباب ،
و ارتعش جسدي ثانية ،
ثم قال لي بنبرة كأنّه يتّهمني بتهمة ما : " أنتَ لا يمكنك مرافقتي أبداً . "

أحسست أن فرصتي بالذهاب معه قد بدأت تتضاءل شيئاً فشيئاً ، فحاولت الدفاع عن نفسي ،

و قلت له : و لكنَّ الله حرّم علينا أموراً كهذه ، و أنتَ أعلم مني بهذا ،
فما الخطأ فيما قلته لك حتى ترفض مرافقتي ؟ .

و مع أنّه ردّ عليّ بهدوء ، إلّا أن صوته كان كهدير الرعد تماماً :
" أرى أنّك تهمّ لما يقوله الآخرون فيك كثيراً يا غلام ،
لكن أتعلم ؟
، بما أنّك شديد الحرص و الخوف على ما يقولونه ، و ما سوف يقولونه فيك ، فصدقني أنتَ لن تتخلّص من انتقادهم لك أبداً .
و أنصحكَ بالتخلّي عن كلّ هذا - كالاهتمام بآراء الغير -
، لأنّه لا يحقُّ لأحد أن يحكم على إيمان غيره أبداً . "

.........

لم أعد أعرف ما يجب عليّ قوله ، فلقد عملتُ بجدّ و بظروف صعبة حقاً في تكية الدراويش لمدّة سنوات ، لكنّ هذا كان أصعب عليّ بكثير من كلّ ذلك .

ثمَّ تابع كلامه :
" تريد أن تجتاز الطريق ! ، لكنّك لا تريد أن تُضحي في سبيل ذلك ؟ ،
لن تصل يا عزيزي ، إن لم تتخلّص من كلّ ما هو ثمين و غالٍ عليك ،
المال ، و القوّة ، و الجاه ، و الشهرة ، و غيرها من الأشياء التي يعطيها البعض الأولوية في هذه الحياة ....
" كلّها و أمثالها تخلّص منها حالاً " .
صرخ شمس آخراً بهذه العبارة ،

ثمّ ألقى التحيّة عليّ لآخر مرّة ، و مضى مُمسكاً بلجام حصانه ، مُنطلقاً نحو هدفه كالنسر .
و بعد أن ابتعد قليلاً ، ركبت على حصاني ، و تبعته حتى وصلنا إلى أطراف بغداد ،

فتوقفت و بدأت أنظر إليه لأملأ عينيّ منه ، حتى توارى عن ناظريّ تماماً ، و بكلّ تأكيد لن أكون قادراً على لقاءه ثانيةً ، أو لقاء من يماثله أبداً .

لكن ما يزال أثر نظراته يؤثر فيَّ حتى الآن .

.........
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي