22

، فصاح قائلاً لي بلهفة :
"  لا تنسَ أن تحضر خطبة الروميّ القادمة أيها الدرويش ، و صدقني لن تندم أبداً . "

فهززتُ رأسي ، و لوحت بيدي مودعاً ، و قلت له إن شاء الله .

و أنا الآن متلهف لسماع خطبة الروميّ ، و للقاءه أكثر ، لكن قبل أن أتعرّف عليه شخصياً ، أريد أن أتعرّف عليه من خلال أهل هذه المدينة أولاً ،
كيف يكون بنظر من يحبّه ، و مَنْ يكرهه ؟

و ما آراءهم بهذا العالم الجليل الكبير ؟ !

............




" الرومي "

في بعض الأحيان ، كانت تغمرني موجة حزن شديدة مفاجئة ، لا أعلم لها سبباً !! ،

لقد نلتُ أغلب ما كنت أريده ، و حققت الشيء الكثير في حياتي ،
فقد أكرمني الله تعالى بأشياء عزيزة حقاً ، ألا و هيَ العلم ، و المعرفة ، و الفضيلة ، و القدرة على مساعدة الآخرين ، في طرقهم إلى الله .

و أنا الآن أبلغ ثمانية و ثلاثين من عمري ، و قد أعطاني الله الكثير !
، أكثر مما كنت أطلب منه جلّ جلاله ، بكرمه .

أصبحت الآن فقيهاً ، و خطيباً ، و عالماً شرعياً ، بعد أن درست مُختلَف العلوم ، و أدقّها ،

كان أستاذي القديم ، و القدير ، سعيد برهان الدين يقول لي ، أن ما أنا فيه هو نعمة ، و بركة من الله تعالى ، و مهمّة شريفة ، بأن كلّفني بإبلاغ رسالته إلى عباده ، و إرشادهم ، و مساعدتهم على التمييز بين الحقّ و الباطل .

لقد درست العلوم العرفانية ، و كما أرشدني والدي رحمة الله تعالى عليه ، فقد درست على يد أفضل المعلّمين في زماني ، و قد بذلت جهداً كبيراً جداً ، لكي أستطيع أن
أقوم بهذا الواجب ، الذي خصّني له الله تعالى ،


و درّستُ في المدرسة لعدّة سنوات ، و علّمتُ تلاميذي ، و درّست الفقه و الحديث ، و ناقشت اللاهوت مع علماء شريعة آخرين ،

كان الكثير من الناس يمتدحون الخطب التي أُلقيها ، و لا أتذكّر عدد التلاميذ الذين درّستهم ، لكن الحميع كان يقولون أنَّ كلماتي قد غيّرت حياتهم ، و جاءت في وقت كانوا في أشدّ الحاجة إلى الإرشاد ، و التوجيه .

أنا لم أُعاني من الفقر ، أو الحاجة في كلّ حياتي ، و مما أنعم عليّ الله به ، هو أُسرتي المُحبّة الدافئة ، و كان لديّ مريدون مخلصون ،

و في الحقيقة ، لقد كان فقداني لزوجتي الأولى العزيزة ، أثر شديد عليَّ ، لم أتخلّص منه حتى اليوم ، لكنّها قد تركت لي ولدين جميلين
، و مازلت أذكرها بكلّ خير ، رحمها الله تعالى ،

و قد ظننتُ أنني لن أتزوّج بعدها أبداً ،
لكنّي قد تزوجت من كيرا ، و التي تكون قمّة في الأخلاق ، و المحبّة ،

و قد كَبُرَ ولداي ، و أصبحا شابّين رائعين ، لكنَّ أحدهما لم يكن يشبه الآخر ، و قد كنت أتساءل أحياناً عن اختلافهما ،
فهما مثل بذرتين شقيقتين ، قد زُرعتا في أرض واحدة ، و تم رعايتهما و سقايتهما من نفس الماء ، و غذّتهما شمس واحدة ، و مع ذلك فقد انتشتا نبتتين مختلفتين ،

أنا فخور ، و مُعتزٌّ بهما بحقّ ، و بابنة صديقي العزيز ، الصغيرة الجميلة التي تعيش معنا .

إنّي رجل سعيد و الحمد لله ، قانع بما أعطاني الله من فضله ، و ممتن له ، و أعيش في المجتمع براحة .

لكن الشعور بالفراغ يكاد لا يفارقني ، و يزداد اتساعاً يوما بعد يوم !! ،

و هو يلازم روحي مثل المرض ،
و يرافقني بهدوء أينما كنت ، لكنّه ينخر روحي ككائن مفترس .

نهضتُ الليلة من فراشي مفجوعاً ، و اتجهت نحو النافذة التي تُطلّ على الفناء الخلفي ،
و نظرت إلى القمر المكتمل ، الذي بدا مثل لؤلؤة معلّقة بسلسلة النجوم ، حول عنق السماء .

لكن حتى هذا المنظر البديع ، لم يستطع إيقاف ارتعاش يدي ، و خوفيَ الشديد !

ليس بيدي أن أفعل شيئاً حيال أحلامي ، فهي تأخذ مسارها كما يشاء الله ،
لقد استيقظت و وجهي شاحب تماماً ، بسبب هذا الحلم الذي أراه منذ أكثر من شهر ،

هو نفس الحلم تماماً ، لكن بدايته تختلف قليلاً كل ليلة ، أو ربما أنا أدخل لهذا الحلم من باب مختلف كلّ مرّة ، مما يجعل بدايته تختلف قليلاً كل ليلة .

في حلمي هذه الليلة ، لقد رأيت أنّي أجلس في غرفة مألوفة لديّ نوعاً ما ، لكني لا أعرفها تماماً ،
و كنت أتلو القرآن الكريم ، في غرفة مفروشة بالسجاد ،
و أمامي ، كان يقف درويش ، طويل ، و نحيف ، مُنتصب القامة ، على وجهه حجاب ما ،

لقد كان الدرويش يحمل شمعداناً ، فيه خمس شموع متوهّجة بشدة ، و بدا أنّه يفعل ذلك لكي أتمكّن من الرؤية لقراءة قصيدة ما ،

و بعد قليل رفعت رأسي إليه ، لكي أُطلعه على محتوى القصيدة التي قرأتها ، و يا لِما فجعني !!

إن ما حسبته شمعداناً لم يكن سوى يد الدرويش ، و قد كان كلّ إصبع من أصابعه يشتعل ناراً !! ،

و بهلع نظرتُ من حولي بحثاً عن الماء ، لكي أُطفئ النار ، لكني لم أجد ماءً على الإطلاق .

فقمت بخلع عباءتي ، و رميتها على الدرويش ، محاولاً إطفاء النار المشتعلة ...

و بعد برهة ، رفعت العباءة ، و لم أجد الدرويش تحتها ! ، لقد اختفى ! ،

و وجدت أنّه قد ترك خلفه شمعة مشتعلة ،

بدأتُ بالبحث عنه في كل مكان ، و فتشت في كل ركن و زاوية في المنزل ، لكن دون جدوى ،

فتوجّهتُ نحو الفناء الخلفي لمنزلي ، حيث تفتّحت أزهار باللون الأصفر بكثرة ،
بدأت أصيح و أنادي ، لكنَّ أحداً لم يجب !! ،

" أين أنت ؟ ، عُدْ إليّ أيها العزيز .... "

و بعد قليل ، انتابني احساس مشؤوم ، يقودني نحو البئر القديمة ! ،

ذهبتُ و نظرت في المياه المظلمة المتماوجة ، في غيابة البئر ....

لم اتمكّن من رؤية اي شيء في البداية ، و بعد قليل أطلَّ عليّ ضوء القمر ، و أضاء الفناء بضوء لم أره من قبل ،
فاستطعت الرؤية قليلاً ،
ثمّ رأيت عينين سواوين تنظران إلي من قاع البئر بحزن شديد .

و سمعت صوتاً يقول : " لقد قتلوووه ! " .

ربما كان هذا صوتي ، و لم أستطع تمييزه بسبب هذا الحزن العميق الذي انتابني .

رحتُ أصرخ و أصرخ متألّماً و كأن قلبي قد خُلعَ من مكانه !
، حتى أيقظتني كيرا ....

" أفندي !! ، هل رأيتَ نفس الحلم الليلة أيضاً ؟ . "

هدّأتني كيرا قليلاً ، ثمَّ اخبرتها أنني بخير ، و طلبتُ منعا العودة إلى النوم ،
و بعد أن نامت ، خرجتُ إلى الفناء الخلفي ،
و كان انطباع ذلك الحلم ما وال يرافقني ، واضحاً و مخيفاً ، في ظلام ذلك الليل .......

و بالرغم من خوفي ، لم أتمالك نفسي من الذهاب إلى البئر و تفقّده ،
و بعد أن نظرت إليه ،
سرت رعشة شديدة في جسدي ، من رأسي إلى أخمص قدميّ .

جلست بجانب البئر قليلاً ، و استمعتُ إلى صوت حفيف الأشجار ، مع هبوب نسمات بين أوراقها .

و بسبب هذا الحلم ، أنا أغرق في دوامة من الحزن اللا متناهي كل ليلة .

.............
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي