الفصل، التاسع، عشر

إنهمك حازم بعمله يوماً بعد يوم و لا يعود لمنزله فهو لا يقوى على التطلع بعيني والدته بعدما حدث معها...
تطلع إليه آسر بحزن و قال له بضيق:
_ حازم والدتك إشتكت لي منك و إن لم تعود لبيتك ستأتيك هي.
رفع حازم رأسه و طالع بنظرات خاوية و قال بحدة:
_ اتركوني أفعل ما يريحني ما الصعب بذلك؟!
إلتفت آسر بكامل جسده ناحيته و قال بإصرار:
_ هي أم قلبها ينفطر على غيابك.. إرحمها يا حازم حرام عليك.
ترك حازم القلم من يده و إستند بظهره على كرسيه و قال بتنهيدة طويلة و كأنه يختنق و يحتاج للأكسجين:
_ لا أقوى على التطلع بعينها يا آسر.. عيني امامها بالأرض.
ربت آسر على كفه و قال بحنو:
_ هذا ليس خطأك يا حازم.. موقف و بات ماضياً و هي قد نسيته و لا يعنيها أحد سواك.
أومأ حازم برأسه و قال مؤكداً:
_ أعلم كل هذا جيداً.. و لكنه يبقى خطأى حيث سمحت لمشاعرى أن تحركني و تجعلني أعمى لا أرى أحد غيرها و هي لا تسوى شئ كي أُغضب أمي تلك السنوات مني من أجلها.
أخرج آسر لفافة تبغ من علبتها و وضعها بين شفتيه قائلاً:
_ و هذا أمر و إنتهي و أمك بحاجة إليك.. يا حازم لقد كانت تأخذ نفسها بصعوبة و هي تتحدث معي لو مرضت ستكون أنت السبب.
إقترب منه حازم بجسده مستندا على مكتبه و سأله بقلق:
_ هذا حقيقي أم تقوله لتجبرني على الذهاب إليها.
نفث آسر دخان لفافته المشتعلة و قال بحنق:
_ و هل هذه أمور يصح بها العبث يا حازم؟!
أغلق الملف الذى امامه و وقف مسرعاً و هو يقول لآسر بتلعثم:
_ أرجوك أن تعمل على هذا الملف حتى عودتى فاللواء يريده مني غداً.
حمله آسر و وقف قائلا بجدية:
_ لا تقلق سأنهيه و أنت إذهب مباشرة لبيتك و بالصباح نلتقي لأنني سأذهب لمأمورية قد تستغرق وقتاً طويلا.
وقف حازم يطالعه بأسي و قال بتنهيدة مقتضبة:
_ بالاول زيد و ها أنت الآن ستتركني.
إقترب آسر منه و ضرب صدره بقوة و هو يقول بمداعبة:
_ قد تكون أنت التالي فإستعد يا بطل.. هذه ضريبة عملنا ماذا سنفعل.. فقط تمام يا فندم.
إبتسم حازم و هو يقول له بإيماءة خفيفة مؤكدا:
_ معك حق.. أراك بالصباح لا تغادر قبل أن آراك لا تفعل مثل زيد و الا لن أسامحك.
تركه و خرج مسرعا يقود سيارته بشرود... مر أولا على محل كبير لبيع الهدايا إبتاع لأمه و لإخوته هدايا و مر على الحلواني و إشترى أنواع الحلويات التي يفضلونها...
و عاد لعشه يشعر بخزى.. دلف للشقة لتقف أمه مسرعة و إتجهت ناحيته و هي تبكي بحرقة على غيابه..
ترك الحقائب من يده و إحتضنها مسرعاً و هو يقول بندم:
_ سامحيني يا حبيبتي فأنا أشعر بالخزى أمامك.. لهذا فضلت الإبتعاد لأيام.
إبتعدت عنه أحلام و طالعته مطولا و قالت بلوم:
_ حبيبي أنا لا أهتم سوى بأن تكون أنت و إخوتك بخير و أي شئ آخر لا يهمني.
خرجت سجدة راكضة ناحيته من غرفتها و قفزت لصدره نظراً لفارق الطول بينهما.. فإلتقفها و ضمها لصدره و هي تصرخ بفرحة:
_ حزومي حبيبي إشتقت إليك.
تعالت ضحكاته و هو يقول بمداعبة:
_ أصبحتي ثقيلة يا سجدة.. و مع ذلك فأنا أيضاً أشتاقك.
إقتربت منه مريم و هي تبتسم برقة و قالت بلوم:
_ و أخيرا تذكرتنا يا حازم.
إنزل سجدة و إقترب منها و ضم رأسها لصدره و قال بنبرة متأسفة:
_ كنت بحاجة لأن أفكر قليلا يا مريم.
تطلعت سجدة بالحقائب و حملتها و هي تعبث بها بفرحة.. سار حازم ناحيتها و اعطاها هديتها... و ناول مريم حقيبتها.. و إقترب من أمه و قال بحنو:
_ لقد أحضرت لكِ عباءة جديدة يا أمي أرجو أن تنال إعجابك يا غاليتي.
اخذتها منه و هي تقول بإمتنان و قد خرج منها سعال شديد:
_ اي شئ منك جميل يا قلب أمك.
عبس حازم بعينيه و هو يلاحظ سعالها الجاف فسألها مسرعا بقلق:
_ أمي هل أنتِ مريضة؟!
اجابته سجدة مسرعةً:
_ كانت كل يوم تنتظرك بشرفتها حتى منتصف الليل فأصابها البرد و ليومين سعالها مستمر و ترفض الذهاب للطبيب.
إتسعت عيني حازم و سألهم بضيق:
_ و لمَ لم يخبرني أحد بأمر مرضها.
أجابته مريم ببديهية:
_ أنت لا ترد على أتصالنا يا حازم لو كنا إحترقنا او أصابنا مكروه لم يكن يهمك.
إلتفتت إليها أحلام و قالت بعتاب شديد:
_ مريم لا تكوني قاسية لهذا الحد مع أخوكي الكبير.
ربت حازم على ذراع أمه و قال بخفوت:
_ معها حق يا أمي و الآن بدون أى نقاش إرتدى ملابسك لآني سآخذك للطبيب لأطمأن عليكِ و بعدها سأخذكم لمطعم مشويات سيعجبكم كثيراً.
اومأت أحلام برأسها موافقة و إلتفتت للفتاتين و قالت:
_ أمامكما ربع ساعه إن لم ترتدوا ملابسكما فيها سأخرج أنا و أترككم.
اسرعت الفتاتان لغرفتهم ليبدلوا ملابسهم و هي تركته و دلفت لغرفتها مسرعة مبتسمة براحة...
أما هو جلس على الأريكة يتطلع أمامه بشرود.. فما قالته مريم حقيقي لو كانوا تأذوا بغيابه... أغمض عينيه و هو يهز رأسه كي يطرد تلك الافكار من رأسه و قال بصياح:
_ لقد بدأ العد التنازلي و من ستتأخر لن نأخذها .

•   * * * * * * *

لو كان الشوق رجلاً لقتله.. كيف لها أن تلقيه خارج حياتها و هي تعلم مدى عشقه لها... هكذا بسهولة لفظته من حياتها و لم تفكر به ثانية....
جلس إيساف ينفث دخان أرجيلته بشرود و عينيه تشع نارا كنار الأرجيلة المشتعل ... طالعه كريم بتوجس من حاله المتغير و شروده الدائم...
لقد إنطفأ و لم يعد كما كان مرحاً و شغوفاً.. يحب التحدى و لا يستسلم و لا تملأ عينه أى فتاة...
أما إيساف فكان كلما لاح طيف مروان أمامه إشتعلت عينيه أكثر...
مال كريم نحوه و سأله بتريث قلق:
_ إيساف حالتك أصبحت ميؤوس منها.. طوال الوقت شارد.. أين أخذك شرودك هذه المرة؟!
فقال له إيساف و هو ينفث الدخان نافثا معه نيران قلبه المحترق :
_ غدا خطبة أخت مروان.. أرجو من الله أن يأخذه قبل أن أصل إليه أنا و أنتقم منه.
رفع كريم حاجبيه وقال بتعجب :
_ هل ما زلت تفكر بها يا إيساف.. آية ليست آخر فتاة بالدنيا و ستجد غيرها و تحبها.
تنهد إيساف طويلا وقال بوهن :
_ إشتقت إليها كثيراً و لا أجد فرصة لرؤيتها سأجن و حينها ردة فعلي لن تكون محسوبة.
زفر كريم بقوة و هو يقول بغضب:
_ و لكنها لا تحبك.. تحب غيرك وأنت تعلم ذلك جيداً.. إنساها تعرف على أخرى لكي تنسيك آية و حبها.
طالعه إيساف بنظرة غاضبة شرسة وقال بنظرة محتدة :
_ لا تقُل أمامى هذا الكلام.. آية لي ملكي أنا و لن أتركها له مهما حدث.
هدأه كريم و هو يقول بإشفاق عليه:
_ حسنا و لكن إهدأ اخشي عليك من نفسك و أرجو من الله ان يهديها إليك و تصبح من نصيبك.
فقال له إيساف بنظرات شيطانية وبلهجة حازمة :
_ غدا بالخطبة سأجعلها تتركه و تعود لي اجلس و إنتظر فأنا لن أمل حتي آخذها منه.


ذهب زياد بسيارته المزينة بالورود ويتبعه أصدقائه بسياراتهم...
هبط من سيارته أمام مركز التجميل فى إنتظار خروج سارة ... بينما نزل مروان من سيارة عبده وإنتظر هو الآخر خروج آية التى خرجت تتبعها سارة...
إنبهر زياد بجمال سارة ووقف ينظر لها بحب وإعجاب خجلت من نظراته لها فقالت له آية بإبتسامة مداعبة :
_ يا عريس ألن نذهب للقاعة الجميع بإنتظارنا.. دعها تصعد السيارة تأخرنا.
مد زياد يده لسارة فناولته يدها.. وإستقلا السيارة بسعادة....
وقفت آية تبحث بعينيها عن مروان ليأتيها صوته من ورائها قائلا بمداعبة رقيقة :
_ هل القمر يبحث عني؟!
هزت رأسها وإلتفتت إليه بابتسامة متسعة.. إلتقت عيونهم .... وظلا ينظران لبعضهما بحب فقد كانت آية أجمل من أن توصف.. وقف مروان يتطلع إليها حتى قالت بخجل مازح :
_ ستشرد بوجهي كثيراً.. هل أعطيك صورة لي؟!
ضحك بصوت عالى وتذكر كلماته لها سابقا .. وقال بمزاح ساخر :
_ إنقلب السحر عالساحر و إنقلبت الآية يا أحلى آية بالدنيا.
إبتسمت وقالت و هي تدفعه ناحية السيارة بإستحياء من نظراته تجاهها :
_ مروان إصعد سيارتك فنحن نعطل كل شئ و متأخرون أيضاً.

دلفت العروس تمشى على الممر وعريسها ينتظرها فى آخره مبتسم براحة...
حمل كفها وقبله وهدأت الأنوار وبدأت الموسيقى الهادية ، رقص معها زياد وعيون الجميع عليهم تتابعهم بإبتسامات فَرِحه....
لم يكن يشعر بشئ فقط سابح بعينيها و هو يحمد ربه أنها أصبحت له بعد طول إنتظار... تطلع زياد بسارة بنظرات تحمل الحب.. فخجلت منه و طاطأت رأسها فأمسك ذقنها ورفع وجهها له نظرت له فقال لها بهمس خافت :
-  أحبكِ .
وحملها ودار بها فتعالت الصيحات من حولهما... أنزلها وأكملوا رقصتهم حتى إنتهت وجلسوا على مقعدهم لإلتقاط الأنفاس قليلا...
إتجهت إليهم آية حاملة الشبكة... ألبسها زياد شبكتها وقبلها من جبينها وبدأت الموسيقى الصاخبة ...
صعد إليهم مروان وإجتذبهم وأخذ يرقص معهم ثم صعدت الفتيات والشباب أصدقائهم وبدأت الحفلة الصاخبة ، رقص مروان مع آية التى لم تفارقها عيون إيساف المبهور من جمالها ....
فهى كانت كآلهة يونانية ... تنهد بأسي مستنداً على الحائط خلفه و هو يتابعها من ركن منزوى بعيد عن الأنظار...
بعد قليل غمز إيساف لبعض الفتيات اللاتى كن أصدقاء لمروان فصعدوا إلى المسرح وتوجهوا ناحيته...
نظر لهم مروان بتعجب وقال بصدمة :
_ متى جئتم و من أين؟! لقد فاجأتموني.
فقالت إحداهن بعتاب :
_ هكذا إذا يا مروان.. لا تخبرنا بأمر خطبة أختك و لكننا لم نتغافل و جئنا كي نبارك لك و نحتفل معكم.
وقالت الأخرى بحماس :
_ هل سنقف هكذا و كأننا بعزاء.. فلنرقص و نحتفل.
و بالفعل إحتلوا المسرح و أخذوا يرقصون بإبتذال ملفت و بطريقة لا تحمل أى إستحياء... إندمج معهم مروان .. بينما إستاء منهم الجميع......

وقفت آية تتطلع إليه بغضب و هي تتابع لمساتهم و حركاتهم المغوية... لاحظ إيساف غضبها فعلم أنه وصل لمبتغاه و بمنتهى السهولة...
إقتربت سهام من مروان وإجتذبته من بدلته وقالت له بغضب :
_ من هؤلاء ستفضحنا؟!
أجابها مروان بهمس :
_ زملائي من الجامعة يا أمي و هذه مجاملة لا أكثر.
كانت سهام تطالعهم بنفور ثم عادت إليه بعينها و قالت بنبرة قاطعة لا تقبل النقاش:
_ مروان أمامك دقيقتين ويغادروا في صمت فأنا لن أحتمل أكثر.
أومأ برأسه وقال مستسلما :
_ حسناً يا أمي لا تقلقي.
أنزلهم مروان و جلس معهم قليلا.. وودعهم وعاد لجلسته مع جدته و آية العابسة...
لاحظ غضبها فاقترب منها وقال بتعجب :
_ آية ماذا بكِ؟! و ما سبب المائة و إحدى عشر التي ترتسم على جبهتك تلك؟!
لم تجيبه و تعمدت تجاهله.. فقال مجددا بحدة :
_ آية لمَ لم تردى عليّ.. انتِ غاضبة مني لأنني رقصت مع الفتيات أليس كذلك؟! حبيبتي لا اقوى على غضبك مني و لن احتمله.
ردت عليه آية بعبوس :
_ لست غاضبة منك.. الأمر لا يستحق غضبي عامة.
زفر بضيق و هو يقول معللاً ببساطة:
_ لم أفعل شئ زائداً عن الحد فقط رقصت.
نظرت له آية بغضب وقالت بإبتسامة ساخرة :
_ فقط رقصت!!! و لو صعدت أنا المسرح و وقفت بين هؤلاء الشباب و فقط رقصت سيكون الأمر عادى بالنسبة لك.
إعتدل فى جلسته وقال بصرامة :
_ هل جُننتي؟!! آية لا تلعبي معي هذه اللعبة لأنني بإمكاني هد القاعة علي من فيها.. سمعتي؟!
رفعت آية عينيها بملل و قالت له بصرامة :
_ يحق لك الغضب و الغيرة و أنا لا يحق لي.. مشاعرنا واحدة فنحن بشر و المشاعر لا تفرق بين ذكر و أنثى و كما تضايقت أنت من مجرد حديثي تخيل إحساسي و هن يتمايلن على صدرك يا مروان.
نظر لها بأسف وقال بجدية :
_ أنا آسف و لن أفعلها مجدداً مهما حدث و سأراعي مشاعرك أكثر حبيبتي.
ظلت صامته تتطلع لزياد و سارة وإلى سعادتهم فإبتسمت بخفوت....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي