الفصل، الثامن، والعشرون

لقد دخل مروان بمرحلة المتاهة و اخذ يدور و يدور بها و لا يستطيع الخروج ليس لأنه فشل بإيجاد مخرج و لكن لأنه أصبح يهوى المتاهة فهي امتع من الواقع المرير الذي يحاوطه..
لاحظت آية حالته المتغيرة يضاف اليه بعض الأحاديث المبهمة التي تثار من خلفها و تسمعها صدفة وأصبح ضميرها يؤنبها أنها السبب فى هذا الحزن الذى خيم على منزلهم بسبهها و بسبب عقلها البائس..
قوة غريبة بداخلها دفعتها لرد الدين لتلك الأسرة التي عملت لسنوات و سنوات على إسعادها و تربيتها بعدما لفظها والدها فقررت التخلي عن خوفها بأي ثمن كي يعود الإبن الضال لأسرته مجددا حتي و لو على حساب نفسها...
عاد مروان فى الصباح لمنزله ليجد والده أمامه فقال وهو يزفر بضيق :
_ وتنتظرني أيضاً.. ها قد بدأنا من جديد كعادة كل يوم.
دلف للداخل و قذف مفاتيحه و سار حتي غرفته ببرود مستفز و بوقاحة جديدة عليه.. إستوقفه رؤوف و هو يقول بقهر :
_ يا مروان رضي الله عليك عد كما كنت من أجلي و من أجل أمك المسكينة فهذا الطريق لا يليق بنا .. ألا يكفيك السهر للصباح حتي يتحول للنوم بأماكن لا نعرفها.. اهكذا ربيتك ام ضاع عمرى هبائاً.
مسد مروان أعلي أنفه و قال بإرهاق بادى على هيئته أيضاً :
_ أين ذهب عقلك بك.. أنا كنت نائم ببيت عبده بعدما سهرنا ذهبت معه كي لا آتي بمنتصف الليل و أزعجكم فأنا أعلم أنك تنتظرني و ينتظرني النكد اليومي.
رفع رؤوف حاجبيه و هو يطالعه بإندهاش ثم تغاضي عن صفاقته و قلة حيائه و قال مستعطفا ما تبقى من إبنه بداخل هذا الغريب عليه :
_ يا ابني أنا مريض و صحتي لم تعد تحتمل افعالك تلك فقد تملك مني التعب.. أنا لا أحب النكد كما قلت أنت و لكنني أخشي عليك من الايام و من هذا العالم الذي إخترته لتهرب إليه.
لاحظ مروان أن والده ليس بخير فقد أصبح وجهه شاحباً و قل وزنه بشكل ملحوظ.. حتي أنه و هو يتحدث صار يأخذ انفاسه بصعوبه.. إقترب منه وساعده علي الجلوس وقال بقلق :
_ أبي هل أنت مريض تبدو شاحباً؟!
جلس رؤوف على المقعد بوهن و اجابه بصوت خفيض:
_ لقد عادت لي مشكلة ضيق التنفس من جديد و الطبيب نصحني بالراحة هذه الأيام و انا لا أستطيع غلق محل البقالة خاصتنا فمن أين سنأتي بالمال فاتحامل على نفسي و أعمل لأنك تنام طوال النهار و تسهر طول الليل.
شعر مروان بالخزى من نفسه فربت على ظهر والده و قال بندم:
_ لا تقلق يا أبي إرتاح أنت قليلاً و أنا سأعود للعمل و لن أغضبك مجدداً لا تقلق فصحتك عندى أهم دون شك.
تسللت الراحة لقلب رؤوف و هو يقول بإبتسامة هادئة:
_ لو كانت صحتي ثمن لعودتك فأنا لا أريدها يا مروان.
ضم مروان رأس والده لصدره و قال مسرعاً:
_ ادام الله عليك الصحة و العافية يا حبيبي لا تقل هذا.
ثم أبتعد عنه و جثي أمامه و هو يقول بحدية:
_ بإذن الله سأعيد ثقتك بي و سأعمل معك كما عودتك بعطلتي كل عام و سأبحث عن فتي جديد ليساعدك و ساعلمه كل شئ بإذن الله حتي عودتك.
اومأ له رؤوف برأسه فتركه مروان ودخل غرفته جلس على فراشه قليلا و هو يفكر في البؤس الذي أصابهم حتي وصل لأنفه رائحته المقززة من مشروبه و آثار ليلته العالق بجسده فقام و إغتسل ليمحو آثار من كانت معه من عليه...
بكل مرة يكره نفسه أكثر عندما يزول آثر المشروب من عقله و يستيقظ ليجد بجواره فتاه نائمة و بأوقات كثيرة لا يعرفها ....
جلس على فراشه متهدل الكتفين يطالع بساط غرفته و قد تساقطت عليه عبراته بألم على حالته التي لا تروقه على الاطلاق...
ليرى آية تقف أمامه على باب غرفته و تطالعه بحزن .. نظر لها بأسى ودموعه لا تتوقف و كأنه يبثها ألمه و غبطته.. إقتربت منه و سحبت كرسى من أمام مكتبه وجلست أمامه بثقة جعلته يتعجب و لكنه بمجرد التعمق بعينيها اخذ يبكى بحرقه و هو يروى شوقه لها بصمت مرهق....
قاومت خوفها ومدت يدها بمحرمة ورقية وقربتها منه.. إبتسم بخفوت و أخذ المحرمة منه و كفف دموعه بها و هو يطالعها بإمتنان صامت.. و شعور اكبر من البغض يملأه و هو يفكر أنه يخونها و هي لا تستحق ذلك...
تحسرت آية على حالته، فتحت فمها لتتحدث و إستجمعت قوتها وقالت بضعف و بنظرات غير ثابتة:
- أنا آسفة يا مروان... سامحنى .
عادت دموعه للإنهمار مجدداً و هو يقول بصوت متحشرج و يطالعها بألم و حزن :
_ اقسم لكِ بربي أنني أموت بالثانية آلاف المرات مثلك و أكثر.. ليأتي بعدك عني و يضرب تعقلي بمقتل و يشعل بداخلي نيران لم أعد أقوى على إحتماله.
تنهدت آية تنهيدة طويلة و هي تفرك أناملها و قالت بابتسامة خافتة إرتسمت على شفتيها بتصنع :
_ و أنا أعدك أن أعمل جاهدة على تخطي تلك المحنة و سأكون كما كنت و كما تريد أيضاً يا مروان.
اومأ مروان برأسه متفهماً و قال بتعقل:
_ انا لا أريد سوى حبيبتي الصغيرة التي ببرائتها اذوب عشقاً و بعينيها الرائقة زادى.. هل ستعديها إليّ من جديد؟!
أطرقت آية رأسها بألم وقالت بصوت مبحوح نتيجة كظمها لدموعها :
_ و أنا أيضاً أريد عودتها مثلك.. و سأعيدها بإذن الله و أنت بجوارى و معي.
أخذ يتطلع إليها بحب.. ثم وقف وقال بحماس و إنطلاق بثا به الحياة مجدداً:
_ أمامك نصف ساعة تكونين قد إرتديتي ملابسك بها سنخرج و نشترى خواتم خطبتنا حالاً و لن أستمع لأى إعتراض.
وقفت مسرعةً و قالت بتعجب:
_ و لكن يا مروان انا...
قطع إسترسالها و هو يقول بنبرة قاطعة:
_ كلامي نهائي يا آية.. سنشترى خواتم خطبتنا اليوم و الخطبة يوم الجمعة القادم بإذن الله قبل عودتنا للجامعة و الدراسة.
إبتسمت له لأول مرة إبتسامة حقيقية وقالت بإنصياع :
_ موافقة سأنفذ ما قلته و لكن لدى شرط وحيد.
أجابها مسرعاً:
_ عشرون شرطاً و ليس واحداً يا صغيرتي.
إبنلعت ريقها و قالت بتوتر:
_ شرطي أن تعود مروان القديم و تنسي الفترة الماضية بكل ما فيها كما سافعل أنا.. موافق.
إتسعت إبتسامته و قال و هو يطوف عليها بعينيه:
_ موافق يا حلم عمرى.
إنتفضا على صوت زغاريد سهام الممزوجة بدموعها ... فقال لها مروان بعدما إنتهت بحزم مازح:
_ فزعتيني يا أمي.. نحن على أعتاب زواج و أريد أن انجب لكم طفلين و انتِ قضيتي على أملي هذا.
وقفت سارة بجواره و قالت بحزن :
_ و أخيراً عدتم لبعضكما.. إشتقت لجمعكم هذا كما إشتقت إليكم.
لم تترك عينيه آية التي إحمرت وجنتاها مجدداً بخجل و إبتعدت عن مرمي عينيه و هي تقول لسارة بحماس مفتعل :
_ سارة إرتدى ملابسك بسرعة و لا تتلكأى كعادتك لأنه ينتظرنا ساعات طويلة من التسوق.
طالعها مروان بسعادة و هو يغمز لوالده الجالس بالخارج يتابعهم بصمت...
عادت آية لشقتها وأخبرت جدتها بما حدث فباركت لها بسعادة و دخلت غرفتها لتغلق الباب و هي تحتمي به من تخبط مشاعرها و رعشة جسدها التي تملكت منها وأخذت تفرك أصابعها ببعضهما بتوتر...
خشيت ان تكون ردة فعلها عنيفة بأي موقف فهاتفت طبيبتها التى أخبرتها أنها على الطريق الصحيح من الشفاء و انها تستطيع السيطرة على إنفعالاتها لو رغبت ...
اغلقت الهاتف و قد هدأت قليلا بعد مكالمتها ربما هي علي الطريق الصخيح فعلا و لا تدرى .....
إرتدت ملابسها وخرجت معهم إشترت شبكتها الذهبية وفستانها وعادت لمنزلها وهى سعيدة .. خائفة ... وحائرة .
في المساء لم يطاوع مروان حرصه من ان يضغط عليها و هاتفها فردت عليه بنبرة رائقة:
- مروان .
تمدد على فراشه و هو يتنهد تنهيدة طويلة حالمة و قال بمداعبة:
_ قلب مروان و عقل مروان.. كيف حالك الان يا صغيرتي هل تعبتي من التسوق؟!
تنهدت مطولا هي الأخرى و هي تلف خصلة من شعراتها حول إصبعها وقالت بهدوء :
_ أنا بخير حال و الحمد لله.. و فرحتي طغت على تعب التسوق.
سألها بقلق حذر من ردة فعلها :
_ هل من الممكن ان نجلس سوياً على الدرج كما كنا نفعل سابقا لنتحدث بترتيبات خطبتنا؟!
فكرت قليلا و قد زادت دقات قلبها و لكنها تماسكت و قالت بإنصياع :
_ نعم.. سابدل ملابسي و سأفتح لك.
بعد قليل فتحت له الباب لتجده يحمل باقة ورد كبيرة وجميلة وعيونه تبث لها شوقه وعشقه... مد يده ناحيتها بالورد فأخذت منه الوردات وهى سعيدة و لم تشعره بخوفها وقالت بإمتنان :
_ جميل جدا.. شكرا لك يا مروان.
اجابها بإبتسامته الساحرة:
_ انتِ أجمل.
جلسا فى مكانهما المعتاد هو على الدرج و هي بداخل شقتها ، اخذ يتطلع إليها مطولا ثم قال براحة :
_ لا أصدق انكِ عدتِ لي مجددا و ستكونين لي و خطيبتي أمام الجميع بعد الغد.
إبتسمت له و هي تستنشق عبير الوردات وقالت بحب :
_ انا ملكك من يوم ميلادى يا مروان.
غمز لها عينه وقال بشقاوة إشتاقت لها :
_ من حقك تلك الثقة يا قمر.
ضحكت ضحكة عالية متناسية معها كل شئ فقال لها مروان بمداعبة:
_ اموت انا.
اشارت بسبابتها على شفتيها و قالت بفزع:
_ اخفض صوتك يا مجنون ستسمعنا جدتي.
اومأ براسه مؤيدا و قال بنبرة خافتة مثيرة:
_ أنا احبك يا آية.
اطرقت رأسها بخجل و عادت للعبث بالورد و هي تمني نفسها بأن تعود طبيعية و تحيا كما تحيا أي فتاة بعمرها...



إستعدوا للخطبة وكانت فى شقة الجدة كما طلبت آية فهى مازالت تخشى الزحام .
تزينت وإرتدت فستان وردى لتصبح عروسا فائقة الجمال ، إجتمعت عائلتهم ومعارفهم بعدما زينت الشقة بأكمل وأجمل ما يكون...
دخلت عليها سارة وقالت بفرحة :
_ آية مروان ينتظرك على نار يا حبيبتي.
تغلبت آية على توترها وخوفها وذكرت الله علها تهدأ وخرجت مع سارة منكمشة بنفسها..
ليصفق لها الجميع بسعادة، لاول مرة لم تعثر علي الشفقة بعيونهم تجاهها، إقترب منها مروان بإبتسامة هادئة وهو يتطلع إليها بنظرة شمولية وإلى جمالها..
ف طفلته الصغيرة أصبحت أجمل عروس فى الدنيا.. عيونه تأبى تركها و لم يحرك ساكنا فقال له "زياد" مداعبا :
_ أراك تجمدت مكانك يا عريس.. تقدم منها وبارك لها.
نظر له مروان بغضب وقال بتذمر ساخر :
_ نسيت كيف كنت يوم خطبتك يا حضرة المحامي المخضرم.
قهقه زياد قائلا:
_ فلندعنا من الخطبة و العروس و نتسامر سويا.. هل انت مجنون يا مروان؟! استقبل عروسك هيا.
تقدم مروان منها و هو يعدل من سترة بذلته وأمسك يدها وأجلسها وجلس بجوارها وعيناه لا تفارقها وسعادته كانت
بادية على كل ملامحه .
أتت سارة بالشبكة فلاحظ مروان توتر آية فسألها بهمس :
_ آية حبيبتي سأطلب من أمي أن تلبسك شبكتك موافقة.
نظرت له بثقة وقالت بابتسامة هادئة :
_ لا بل انت من سيفعل.
إبتسم لها بسعادة من تغلبها علي خوفها البادى بتوترها و انظارها الزائغة وألبسها شبكتها
وما أن إنتهي حتي بدأت التهانى فاقترب زياد من سارة وقال بشوق :
_ اشتقت اليكِ كثيرا.
ابتسمت سارة بخجل وابتعد بوجهها عنه فقال بإعجاب متلهف :
_ صرت ادمن لحظات خجلك لأنك بها تشبهين القمر.. لو سنحتوا لي سآتي غدا لزيارتكم كي نتفق على بعض الاشياء و نجلس مع بعصنا قليلا الشوق يقتلني.
فقالت له سارة ببديهية :
-  فلتسأل ابي أولاً .
أومأ برأسه و قال بمداعبة:
_ حسنا.. ما رأيك ان نستغل تلك الموسيقى الهادئة و نرقص قليلا كما فعل مروان و آية بخطبتنا؟!
أومأت سارة برأسها موافقة.. اوقفها امامه بالمنتصف
ورقص معها ثم غمز لمروان أن يرقص مع آية...
لم يتردد مروان ووقف امامها مغلقا زر سترتة وبحركة مسرحية انحني قليلا وطلب منها الرقص معه و وافقت بعد تفكير..
لم يقترب منها كثيرا و لم يكن يلمسها بل تركها تضع يديها علي كتفيه و هو يحيطها بحرص الا تلمسها ذراعيه...
وقف رؤوف و سهام ينظرون لأبنائهم ولسعادتهم براحة جاءت بعد تعب طويل.. فقالت له سهام من بين دموعها :
_ ادام الله افراحهم و ازال عنهم الهم و الحزن يا رب العالمين.
إقترب منها رؤوف وقال مداعبا :
_ ما رأيك يا سهام ان نرقص مثلهم؟!
ضحكت وقالت بخجل :
_ اخفض صوتك فإذا سمعك احد سنكون محض سخرية من الجميع.
إنتهى اليوم وسعاده مروان لا توصف فآية آخيرا أصبحت له
أما هى فجلست طوال ليلها تصلى لله أن يمنحها القوة على متابعة حياتها دون خوف ..
ثم تمددت على فراشها تطالع خاتمها الذهبي بسعادة بالغة وراحة اكبر.

...............................................
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي