الفصل، السادس، والعشرون

جلس حازم على مكتبه و هو يشعر بغضب شديد من نفسه.. كلما تذكر أنه بيوم عشق تلك التافهة.. يلعن غباؤه و قلبه البائس...
اغمض عينيه و قال بنبرة خافتة:
_ بالأول تركني زيد و الآن آسر.. و نعم الصداقة.
طرقات خفيفة على مكتبه و صوت يعلمه جيداً وصل لمسامعه قائلا بهدوءه المريح:
_ ما بها صداقتنا أيها البائس؟!
فتح حازم عينيه و وقف مسرعاً و هو يرى زيد يقف أمامه بهيئته السابقة شعراته المهندمة و ملابسه الرسمية العصرية و عطره الآخذ فقال مسرعا بفرحة:
_ زيد!!! هل عدت مجددا للعمل بمكتبك؟! اقصد هل إنتهت مهمتك و عدت هنا؟!
رفع زيد عيناه بملل و قال له بفتور:
_ بالبداية الناس الطبيعيون يقولون مرحبا كيف حالك اشتقت إليك.. و لكنني تركت الطبيعيون لأصادقك انت و عديم الصبر الآخر.
لف حازم حول مكتبه و هو يضحك بخفوت و إحتضنه مرحبا و هو يقول:
_ مرحبا يا زيد إشتقت إليك كثيراً يا أخي.
ربت زيد على ظهره و قال بإبتسامة رائقة:
_ و أنا أيضا إشتقت لنفسي و إليكما أيها المعتوهين البائسين.
إبتعد حازم عنه قليلا و طالعه مطولا ثم قال بجدية:
_ و الآن أجب على أسئلتي.
قهقه زيد عاليا و جلس امامه واضعا ساق فوق الأخرى و هو يقول بغرور يليق به:
_ نعم لقد أنهيت مهمتي و عدت لعملي و الحمد لله قد وفقت انا ورجالي في إتمامها على اكمل وجه.
إستند حازم بضهره على مكتبه و ساله بتعجب من حالة النشوى و التكبر التي تصيبه و قال بحنق:
_ و ما سبب جلستك المتكبرة تلك لا أفهم؟!
تنحنح زبد قائلا و هو يعدل من وضعية ياقة قميصه و قال بعلو:
_ لأنني بعد إتمام تلك المهمة قد تمت ترقيتي و اصبحت مقدماً لا رائد مثلك أنت و البائس الآخر.
إتسعت عيني حازم بصدمة و قال بسعادة بالغة:
_ أنت تمزح؟!!
اجابه زيد بنبرة صارمة و هو يصيح به بعملية:
_ هل تقول لذلك لسيادة المقدم زيد الحاروني يا سيادة الرائد.. تفضل بإلقاء التحية العسكرية فوراً و قدم إحترامك لي.
و بالفعل رفع حازم كفه عند جبهته و ضرب ساقيه ببعضهما و هو يقول بجدية عسكرية:
_ تمام يا فندم.
تعالت ضحكاتهما سويا.. ليقترب حازم من زيد و يهزه بقوة و هو يهنأه قائلا بفرحة:
_ مبارك لك يا زيد أنت تستحقها و تستحق الأفضل لانك تتفانى بعملك لأقصي حد.
تنهد زيد مطولا و قال بحزن:
_ نعم نتفاني و نعطي اقصي ما عندنا و لكن لا تنكر ان عملنا يأخذ منا أكثر ما يعطينا و انا هذه المرة أخذ مني اغلي شئ بالوجود.
طالعه حازم بتعجب و سأله بقلق:
_ ماذا تقصد؟!!
قطع حوارهما دخول أحد المجندين الذى أدى التحية العسكرية و قال:
_ حازم باشا.. اللواء يريدك بمكتبه على الفور.
تطلع حازم بزيد و هما يتعجبان من هذا الإستدعاء السريع ليجيبه حازم مسرعا:
_ حسنا سأذهب إليه.
تركهما المجند و خرج.. فوقف زيد و قال بفضول:
_ ماذا ينتظرك الم أقل انك بائس ؟!! سآتي معك لتحيته و إخباره بقدومي و نرى سبب إستدعائك هذا.
اشار له حازم ان يتقدمه قائلا بعملية:
_ تفضل امامي يا سيادة المقدم فالعين لا تعلو على الحاجب.
إبتسم زيد بخفوت و تقدمه و قلبه ينذره بشئ خطير.. فحازم و آسر ليسا صديقيه و فقط بل احيانا يشعر انه والدهما و مسئول عنهما.. لطالما كان السند و الضهر لهما و هما يعتمدان عليه بكل أمورهما الشخصية لثقتهم فى تعقله و هدوءه المتزن..
دلفا لغرفة اللواء الذي ما ان رأى زيد فوقف مسرعاً و صافحه قائلا بفخر:
_ حمدا لله على سلامتك يا زيد.. انرت مكانك يا بطل.
ادى زيد التحية العسكرية أولا و صافحه قائلا بإبتسامة ودودة:
_ سلمك الله يا سيادة اللواء.
اشار له ان يجلس و ما ان وقعت عينه على حازم حتى تهدل وجهه و عاد لمكتبه مجدداً.. تسارعت دقات قلب حازم و هو يتابع نظراته المحملة ربما بالشفقة عليه..
وقف حازم قبالة مكتبه و سأله بقلق:
_ طلبت رؤيتي يا سيدى ما الأمر؟! هل هناك خطباً ما سيئاً فأنا اصابني القلق؟!
تنهد اللواء مطولا و طالعه بإشفاق و هو يقول بهدوء:
_ لا اعلم السبب و لكن أمر مباشر من المكتب الكبير قد جاء بنقلك من هنا إلي المنصورة و عدم عودتك للقاهرة مجدداً.
تهدلت ملامح حازم و هو يطالعه بصدمة.. بينما وقف زيد مسرعاً و قال بتذمر غاضب:
_ نقله و عدم عودته!! لماذا هذا ليس عادلاً؟!
طالعه اللواء بقوة محذرة فهدأ زيد من نبرته قليلا و قال ليصلح خطأه و إندفاعه بتأدب:
_ أعتذر سيدى و لكن المفاجأة صدمتني.. فحازم متفاني بعمله و لا يستحق ذلك.
إبتسم حازم إبتسامة جانبية ساخرة و قال بفتور:
_ أنا متعجب من انه امر نقل وفقط.. فأنا كنت أنتظر تسريحي تماما من عملي و ربما سجني.
قطب زيد حاجبيه بعدم فهم و سأله بإندهاش إرتسم على ملامحه بشدة:
_ ماذا تقصد؟! انا... انا لا افهم اى شئ مما تقوله.
سحب حازم نفسا طويلا و رسم إبتسامة فاترة على شفتيه و قال بعمليه و هو يطالع اللواء:
_ سأنفذ الاوامر يا سيدى.. سأظل أفتخر أنه خلال عملي كنت جزئا صغيراً من جهازك الذى تشرفت بالعمل فيه و معك سيدى.
وقف اللواء و صافحه قائلا بعجز:
_ تأكد أنني بذلت قصارى جهدى الأيام الماضية لحمايتك من المكائد التي كانت تحيطك و لكن تلك المرة اقوى مني يا حازم.
صافحه حازم و قال بتفهم:
_ أعلم ذلك جيداً و أقدر لك وقوفك بجوارى و دفاعك المستميت عني و لكنها إرادة الله و لا رد لقضائه.. تشرفت بالعمل معك سيدى.
ربت على كفه و قال بحنو:
_ اتمني لك التوفيق و أعلم جيدا أنك بفترة قصيرة سيتم ترقيتك مثل زيد.. أنتم اولادى و أنا فخور بكم.. و انا من تشرفت بالعمل مع شباب انقياء مثلكم.. بالتوفيق و السداد يا حازم.
كان زيد يطالعهما بصدمة و هو لا يفهم شيئاً مما يقولوه.. حتى إنتبه على إنصراف حازم.. اخرجه اللواء من شروده و قال بأسي:
_ لا تتركه بمفرده يا زيد فهو يحتاجك الآن أكثر من أى وقت.
اومأ زيد برأسه و تبعه مسرعاً حتي مكتبه.. وجده يلملم أشيائه الخاصة من على مكتبه.. فتمسك بكفه و قال بنبرة قاطعة:
_ اريد أن أفهم كل شئ فأنا عقلي سيجن من كثرة التفكير و اترك هذه الاشياء من يدك.
توقف حازم عن جمع أشيائه و قال بغضب:
_ فعلتها چيلان كنت انتظر عقاب اكبر و لكن قدر الله و لطف بحالي.
مسد زيد جبهته بقوة و قال بنبرة حانقة:
_ هل ستوضح لي الأمر برمته ام ماذا؟!
جلس حازم على مقعده و قال بشرود حزين:
_ سأقص لك كل شئ منذ رأيتك آخر مرة حتي الآن.
جلس زيد امامه و هو ينتظر توضيحه بفارغ الصبر.. فيبدو انهم بائسون ثلاثتهم بعشقهم كما قال سابقاً ...


•   * * * * *


مرت الأيام وآية تداوم مع الطبيبة النفسية حتى بدأت حالتها فى الإستقرار فاجأها مروان بتحويل غرفتها القديمة و التي بسببها لا تدخل هي البيت الا عندما تشتاق لجدتها لغرفة الصالون وحول غرفة الصالون لغرفة خاصة بها وأحضر لها غرفة نوم جديدة وجميلة و فرشها لها بنفسه ...
عادت آية من عند الطبيبة أخذتها سارة من يدها وأدخلتها غرفتها الجديدة ولأول مرة منذ يوم الحادثة يعود إليها شبح إبتسامة علي شفتيها فقد كانت جميلة و بسيطة كحالها.. فراش انيق خزانة بسيطة.. مرآة دائرية أمامها الكثير من العطور و مستحضرات التجميل.. مكتب عتيق.. بساط بالوان زاهية حتي الستائر متناسقة معه...
ضمتها سارة إليها و سألتها بقلق من ملامحها المتفاوتة ما بين الفرح و الشرود :
_ هل اعجبتك غرفتك الجديدة يا حبيبتي فأنا من إخترت الستائر و البساط و العطور و كل الرفائع.
أجابتها آية بإمتنان حزين و قد اطرقت رأسها كعادتها :
_ نعم اعجبتني لانها جميلة جدا.. لا اجد كلمات لشكركم او توفيكم بعضاً من حقكم.
رفعت لها سارة رأسها و قالت بمرارة :
_ أولا لا تطرقي رأسك هكذا مجددا يا حبيبتي.. ثانيا من فعل كل هذا لأجلك هو مروان ورفض مساعدة من أي أحد منا و إختار كل شئ بها بنفسه و قد اخذ رأيي طبعا ببعض الامور.
طالعتها آية بنظرة دهشة و قالت بتعجب :
_ مروان !
اومأت سارة برأسها مؤكدة و قالت برجاء وهِن:
_ نعم مروان من اراد ان يفاجئك و يرسم البسمة على شفاهك.. تعلمين شيئاً إنه يتعذب ببعدكِ عنه و كل امله ان تعودا كما كنتما يا حبيبتي.
تنهدت آية بالم فسألتها سارة بفضول:
_ آية ماذا يدور برأسك.. فأنا أحفظ كل حركاتك.. اخبريني بماذا تفكرين الآن؟!
سارت آية حتي مكتبها و طالعت باقة الورود الجميلة التي وضعت فوقه و قالت بألم :
_ هل تقصدين بحديثك أن مروان مازال يحبني و يريدني له رغم كل ما حدث؟!
صفعت سارة جبهتها و قالت بحنق غاضب:
_ هل انتِ غبية يا آية؟! تسألين سؤال احمق مثلكِ.. فمروان فقط لا يحبك و لكن زاد حبه و تعلقه بك اكثر.. و يشتاق لحديثكم حتي الصباح و التطلع بعينيك.
تمسكت سارة بذراعيها و قالت بتأكيد قاطع:
_ مروان يحبك بجنون يا آية.
تنهدت آية بألم و تركت الوردات و جلست على فراشها الجديد و هي تقول بألم :
_ ولكنني مازلت أخشي كل شئ يا سارة.. و اخشاه أيضاً و أرى بعينيه أنه يتأذي مني و من افعالي تلك.
جلست سارة بجوارها و ضمت رأسها لصدرها و قالت بحنو:
_ خذى وقتك كاملا يا حبيبتي و هو سينتظرك و يعلم جيدا انكِ ستعودين له مع الوقت لكنه لا يطيق صبرا لبعدكِ عنه.

ظلت آية بغرفتها الجديدة على حالتها تفكر بمروان وهل حقا ما زال يحبها بعد ما حدث معها ألهذا القدر يحبها وهل تظلمه بمعاملتها الجافة له ولكنه رغما عنها فهى مازالت خائفة فما حدث لها ليس بهين .
أخبرت سارة مروان بما دار بينها وبين آية و عن طريقة تفكيرها و عدم تصديقها أنه مازال يحبها و يرغبها كما السابق...
إبتسم مروان بفرحة و إنتفض جالسا و قد كبل ذراعي سارة وقال بشوق :
_ هل تقصدين أنها قد عادت للتفكير بي مجدداً و تنتظرني؟!
حركت سارة رأسها مؤيدة وقالت بسخرية هزلية:
_ هي مازالت تفكر بك و لكنها خائفة من أن تتركها و تنسي عشقك لها كما انا خاىفة منك الآن.. فلتترك ذراعي بدأت أتألم.
إنتبه على حركته العفوية فتركها و هو يدور حول نفسه قائلا بسعادة:
_ انا احبها بجنون يا سارة فآية اغلي من روحي و بكلماتك قد عادت روحي إليّ يا احلى سارة بالدنيا.
مصمصت سارة شفتيها بإشفاق و قالت بمداعبة:
_ أين أنت يا زياد فأنا مصابة بفقر رومانسية هذه الأيام.
صفعها مروان على رأسها و قال بحنق:
_ إحترمي وجودى يا عديمة الاحترام.. بنات آخر الزمان.
فكر قليلا و هو يقطع الغرفة ذهابا و إيابا و سارة تتابعه بعينيها بتعجب ثم إبتسم إبتسامة خبيثة و إلتفت إليها قائلا بحماس :
_ إسمعي و إفهمي ما سأقوله جيدا و ستنفذيه بالحرف الواحد يا سارة فأي خطأ سندفع ثمنه غالياً فهمتي.
ضيقت عينيها و قالت بهدوء:
_ لا لم أفهم.
تنهد مروان بأسي و تهدلت ملامحه و هو يقول بضيق:
_ لا اجد غيرها لمساعدتي يا رب فألهمني الصبر كي لا أخنقها بيدي و أرتاح منها.


فى اليوم التالى نزلت سارة مهرولة لآية التي فتحت لها فقالت بجدية :
_ آية تعالي معي حالا.
ضيقت آية عينيها متعجبة و قالت بإرتباك :
_ آتي معكِ إلا أين؟!! هل خالتي تحتاجني ام ماذا يا مسروعة أنتِ؟!!
اجابتها سارة بنزق و هي تدفعها لداخل شقتها قائلة:
_ ما كل هذه الأسئلة إرتدى إسدالك و تعالي معي في صمت.
كانت آية تسير رغما عنها بقوة الدفع و هي تقول بنفاذ صبر :
_ سارة لا تقلقيني.. هل هناك خطب ما؟!
زفرت سارة بضيق وقالت بحدة :
_ آية لا ترهقيني معك بأسئلتك و إرتدى إسدالك و تعالي معي قبل أن افجر فيكم نفسي فانا تعبت.
اوقفتها آية قائلة بهدوء :
_ حسناً فلتهدأى... فأنا لا افهمك و لا اريد أن أفهم.
طاوعتها آية و إرتدت إسدالها و خرجت إليها فاجتذبتها سارة من ذراعها وصعدت بها إلى سطح البناية ...
وجدت آية الدرج مفروش بأوراق الورود التى تناثرت عليه بكثرة و فاح عطرها بنعومة فقالت لسارة متعجبة :
_ لما كل هذا الورد؟!! و الا أين تأخذينني يا سارة إنطقي.
لم ترد عليها سارة وتابعت جذبها لها حتي صعدت بها لسطح البناية لتجد مروان منتظرها والأرض كلها من حوله مفروشة بالورد وهو يحمل لها باقة ورد كبيرة...
دفعتها سارة إلى الداخل فوقفت أمامه مذهولة وخائفة ... فقال لها مروان بشوق وهو يلتهما بعينيه :
_ إشتقت إليكِ كثيرا يا حبيبتي.. ألم تشتاقي إليّ؟!
حاولت آية السيطرة على رجفتها و توترها كما علمتها الطبيبة و حاولت التحكم بأنفاسها المتسارعة، ظلت تنظر له وهى خائفة .. لم تتمالك نفسها و تراجعت للخلف بخطوات بطيئة فاوقفتها سارة و هي تقول لطمئنتها :
_ إسمعيه يا آية من أجلي أنا و لا تقلقي فأنا اقف هنا و لن أتركك بمفردك لا تخافي من شئ فقط إعطيه فرصة لشرح ما بداخله.
ظلت تنظر له بقلق فقال وهو يطالعها بشوق مهلك و قد افترت شفتيه بإبتسامة هادئة :
_ لقد إشتقت لعينيكِ كثيراً يا صغيرتي.
شعر بإختفاء تشنج فكها و هدوئها النسبي فقال لها براحة و هو مازال محتفظاً بالمسافة بينهما:
_ هل يمكننا الجلوس أرضاً كما كنا نفعل سابقاً؟!
لم يمهلها وقتاً للرد أو التفكير وجلس هو أولا.. نظرت له وقد بدأ قلبها يرق و يلين معلناً إشتياقه له ولعينيه ولصوته الذى طالما كان يلعب على أوتار قلبها..
فجلست هى الأخرى بهدوء قلق.. حتي خرج مروان عن صمته وقال بألم :
_ انا أعلم جيداً ان ما مررتِ به لن تنسيه أبداً.. و لكن بالجانب الآخر لن تنسي أننا نعشق بعضنا البعض.. حبيبتي.. انتِ اغلي شخص بحياتي و لم أعد أحتمل بُعدك عني أكثر من ذلك.
إبتسم لها بخفوت بعدما شعر بهدوئها التام و إتزان حركاتها ولم يغفل بنظرة الشوق التي تمردتمنها ، يريد وبشدة أن يضمها لصدره لتشعر بنيران شوقه لها وقال برجاء :
_ آية فلنبدأ من جديد و كأن شيئا لم يكن و ننسي كل ما مررنا به و إن إحتجتي الوقت فلكِ كل الوقت حبيبتي و أنا سأنتظرك لآخر عمرى دون كلل أو ملل.
ظلت تتطالعه بنظرات ثابتة و لم تتحدث وهى تشعر بالدفئ فى كلامه الذى إفتقدته ببعدها عنه .. خرجت عن صمتها وقالت وهى تفرك أصابعها من الخوف :
_ بالبداية أريد أن أشكرك على صبرك عليّ و تفهمك لما امر به من ذعر و رهاب.. و أعدك أنني سأحاول البحث عن آية و سأجدها من جديد كي تعود لك.
صفقت سارة بيدها و إنتفضت واقفة و هي تقول بسعادة:
_ و اخيراً.. الحمد و الشكر لله.. انا الآن أسعد منكما.
وقف مروان و إقترب من سارة و ناولها باقة الورود و التي إمتلأت بشتي أنواع الشوكولاتة التي تحبها آية و أشار لها بعينه ان تناولها إياه..
فحملته سارة و جلست بجوار آية و قالت بغمزة من عينها و بنبرة مازحة:
_ تفضلي.. ولكن سنتقتسم تلك الشوكولاتة سوياً لأنك إن لم تعطني منها ربما تصابي بحالة تسمم من عيني.
إبتسمت آية بخفوت على مزحتها و حملت باقة الورود بشئ من السعادة.. التي تسللت لقلب مروان فتنهد طويلا براحة و هو يتابع مزاحهم و حركاتها الطبيعية متناسية توترها و رهابها لأول مرة.....

•   * * * *

ها هو اللون الأبيض يعود و يسيطر على كل شئ حولها.. نفس الرائحة الكريهة.. نفس الفراش.. نفس الخواء.....
دخلت إحدى الممرضات و نزعت من يدها الأنبوب المغذى لجسدها و قالت بهدوء:
_ لأيام متتالية و أنتِ على تلك الحالة من الصمت و الهدوء ألا تريدين الخروج من هنا.
و كأنها لا تسمعها.. لتدخل ممرضة أخرى مصمصت شفتيها بإشفاق على حالة راما و قالت بتنهيدة حزينة:
_ فتاة مثلها بجمالها هذا و غنى والدها و سلطته ترقد هكذا و لا تستمتع بحياتها.. سبحان الله مقسم الأرزاق.
مالت الممرضة الاولي عليها و قالت بهمس خافت:
_ الطبيب يقول أنها في حالة إنسحاب عن الواقع و أنها تستمع لكل ما نقوله و لكن ترفض إبداء أى ردة فعل فإنتقي كلماتك.
إقتربت منها الأخرى و قالت بهدوء و هي تنزع رداء راما لتغيره لها:
_ والدها يموت عليها حزناً و هي بعالم آخر.. رغم عينيها المفتوحة دائما و لكنها تبدو كالأميرة النائمة التى تنتظر فارسها كي تصحو.
ما ان إنتهوا من روتينها حتي مددوها على الفراش و هي تحدق بسقف الغرفة بنظرات ثابتة لا حياة بها..
خرجت الممرضتان لتدلف رمزية إليها و هي تبكي بحرقة على حالها.. سحبت كرسيا و جلست بجوارها و تمسكت بكفها و قالت بحشرجة:
_ إبنتي حبيبتي.. إشتقت لمزاحك و غضبك و صياحك.. إشتقت لصوتك يا راما.
كففت رمزية دموعها و قالت بتنهيدة مؤلمة:
_ هل تحبيه لهذا الحد يا راما.. حبيبتي انتِ لم تعرفِ شيئا عنه لماذا منحتيه قلبك و كيانك بهذا الشكل.
سحبت رمزية كفها و أخرجت هاتفها من حقيبتها و عبثت به قليلا و وضعته حتى اتاها صوت غنام قائلا بتلهف:
_ هل راما بخير؟! هل تحسنت حالتها يا خالتي؟!
تطلعت رمزية بوجهها الشاحب و قالت بوهن:
_ كما هي.. ذنبها برقبتك و إن اصابها شئ لن أسامحك.
اغمض عينيه و سحب نفساً طويلا و قال بهدوءه المعتاد:
_ لي طلب عندكِ يا خالتي لو سمحتِ لي.
اجابته رمزية قائلة:
_ تفضل.
فقال مسرعا:
_ ضعي الهاتف بجوار أذنها بحيث تسمع ما سأقوله أرجوكِ .
فتحت رمزية سماعة الهاتف الخارجية و وضعته بجوار رأس راما.. فتنهد غنام طويلا و قال بنبرة ملتاعة:
_ راما حبيبتي.. هل تسمعينني.. لا تظلميني و تظلمي حالك و عودى لواقعك و كوني أقوى.. بإمكاني الوقوف بجانبك و دعمك و لكنني اثق بكِ و يجب ان تعتمدى على حالك.. كما سبق و قولتِ لي انكِ لست بحاجة لي و لا بحاجة لأي شخص اثبتي لي ذلك حبيبتي.. فأنا بإنتظارك.. انا بإنتظارك.
ودعته رمزية و و اغلقت الخط و اخذت تملس على شعرات راما الصفراء و تتلو عليها الرقية الشرعية بهدوء حزين...

•   * * * * *

مرت الأيام وجاء ميعاد نطق الحكم على إيساف لم تذهب آية معهم لعدم قدرتها على رؤيته ، ظلت بمنزلها تنتظر عودة مروان بفارغ الصبر ليطمئنها أنها أخذت حقها من هذا الحقير.. و إقتص القانون لها منه.....
أغمض مروان عينيه فى إنتظار الحكم الذى سيطفئ النار التى تنهش بداخله من يوم الحادث حتي يومه هذا.. حتى نطق القاضى الحكم وهو..... إحالة أوراق المتهم لفضيلة المفتى ، فتح عينيه وهو غير مصدق ما سمعه إحتضن والده وقال بصياح عالي و بنبرة سعيدة و منتصرة:
-  فليحيا العدل ... ألف حمد و شكر ليك يا رب .
قفز على المقاعد بقاعة المحكمة و وقف أمام إيساف يطالعه من خلف القضبان بشماته وكره وغضب وقال :
_ إلي الجحيم بإذن الله يا حقير.. لعنك الله و ملائكته.. بقيّ حساب ربك يوم يختصم المختصمون امام رب العباد.
وقف محامي إيساف امامه و قال بضيق:
_ لو سمحت إبتعد فوالدته و اخواته يحترقون من الجهم عليه فلتترفق بهم.
دفعه مروان من امامه و والده يحاول جذبه من ذراعه و قال بحنق:
_ لن اترفق بأحد.. لانهم لم يشعروا بما قاسيناه من قبل.
ضحك إيساف ضحكة عالية وقال بتحدى قوى:
_ لن اموت يا مروان سأظل بينكما لآخر العمر.. و كما وعدتك سابقاً لن تهنأ بثانية واحدة معها.. سأظل بخيالك كلما لمستها.. و بعينيها كلما طالعتها.. تذكر كلماتي جيداً لأنني لن أتركك.
إعتصر مروان الحاجز الحديدى الفاصل بينهم من شدة غضبه بيديه وصاح به قائلا بجنون :
_ اللهم إنتقم منه قبل أن اقتله انا.. قسما بربي لو طالتك ذراعي لفتكت بك و ألقيت بجسدك لكلاب الطرق يا عديم الشرف.
جذب المجند إيساف من ذراعه ليخرجه و هو يقول بصياح عالي:
_ لا تتحدث عن الشرف يا مروان فانت لا تختلف عني كثيرا و الايام ستثبت صحة كلامي.. أوصل سلامي لآية لا تنسى.
تعالي صراخ مروان و سبابه... فجذبه رؤوف بكل قوته وأنزله وهدأهه قائلا بهدوء متزن :
_ لا تجادله فهو إنتهي و الله قد نصرك أنت و آية عليه.
شعر بإستجابة مروان و هدوءه فتابع قائلا بإبتسامة خافتة :
_ إذهب مع زياد بسيارته و اخبر آية أن الله قد نصرها و إقتص لها منه فالله عادل لا يقبل بالظلم أبداً.. أسرع يا مروان.
أسرع مروان لمنزله وصعد الدرج مهرولا وطرق بابها بقوة فتحت له آية مسرعة فقال وهو يلهث ويأخذ نفسه بصعوبه :
_ إنتهت القضية يا آية و أُحيلت أوراقه للمفتي.. سيعدم و يموت.. فالله و القانون قد ردوا لكِ حقك منه حبيبتي.
وضعت يدها على قلبها الذى زادت دقاته وقالت بتلعثم غير مصدقة لما سمعته:
_ ما الحكم؟!! .. أعيدها يا مروان ارجوك.
نظر لها مروان فى عيونها المترقرقة بالدموع وقال بفرحة :
-  إعدام يا آية... إعدام .
وقفت مصدومة غير مصدقة ما يقال لها وقالت وهي تصرخ بجنون:
_ لا أصدق.. اشعر أنني بأحد أحلامي اليومية و سأستيقظ من غفوتي لأجد كل شئ على حاله.
اومأ لها مروان بعينيه و قال بهدوء:
_ صدقي حبيبتي و ربي الحكم الصادر كان إعدام و سنأخذ حقنا منه بالدنيا كما سنأخذه بالآخرة.
ركضت ودخلت غرفة جدتها وقالت لها بعيون ملأتها الفرحة بعد حزنها الذى قتل بها أى بريق سعادة :
_ لقد حُكم عليه بالإعدام يا جدتي.. سيعدم و يرتاح قلبي.. انا أخذت حقي منه يا جدتي اخذت حقي.
وخرت ساجدة تشكر ربها على نصرته لها إقترب منها مروان وقال بفرحة :
_ مبارك لكِ حبيبتي.. إشتقت لإبتسامتك كثيراً فسعادتك تلك قد أعادت لقلبي الحياة.
وقفت مجدداً ، نظرت له وقالت براحة إفتقدتها كثيراً :
_ اللهم لك الحمد يا ربي.. لا أصدق ما يحدث معي يا مروان لا أصدق.
_ و أنا أيضا لا أصدق حتى الآن.
وبدون أن يشعر وضع يديه على ذراعيها وفجأة صرخت وأبعدت يديه عنها وقالت بهيستيرية غاضبة :
_ إبعد يديك عني و لا تلمسني مرة أخرى.. فهمت.
وقف مذهول و مشدوهاً من ردة فعلها التى كسرته و كلمات إيساف تتردد برأسه لا تفارقه بأنه سيظل بينهم فطالعها بحزن و قال بألم :
_ لمتى سأحتمل طريقتك تلك.. أنتِ تقسين عليّ كثيراً.. كثيراً يا آية.
ضمت نفسها وقالت بخوف يملأها و يزيد من إرتجافة جسدها :
_ اخرج من الشقة حالا أنا لا أريد رؤيتك.
نظر لها بحسرة على حالهما وتركها وخرج وهو غاضب هاتف
أصدقائه وذهب لمقابلتهم .. وصوت إيساف يتردد بقسوة في رأسه و ضحكاته تمزقه دون شفقة أو رحمة...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي