53

(سَجنُ كريستيان!)


الايام العجاف تمر بطيئا وكأنها قد عقدت اتفاقاً مع الزمن لكي يطول في اوقاتها وساعاتها ولحظاتها، لكي يشعر بها المرء في كل لحظة وثانية تمر، والعجيب ان كل ما كان العذاب اكبر او اقوى ازداد طول الوقت اكثر، وكلما خف الالم واستمرت الحياة او عشنا السعادة والهناء فالايام كرمشة العين او اقل!

كل ما مر على ميليسا سابقا شيء، وما تمر به الآن شيء آخر.
كان يلفها الصمت، لا تشكي ولا تبكي، وحتى انها لا تتحدث، قلبها ينزف ولا تدري كيف ستوقف ذلك.
لقد كانت مشاعرها صادقة جدا، ايعقل ان تكون عمياء الى هذه الدرجة؟

ايعقل ان كل من دخل حياتها قد استغلها وهي كالحمقاء تسمح لهم بذلك!
كانت تقوم بجلد الذات، الذي يقوم به اغلب من يواجهون المشاكل، يلقون بكل المساوء على عاتق انفسهم.

مر الآن ثلاثة ايام منذ ان زارتهم اخت جاك، تحاول فيها ميليسا ان تبدو بحال جيد امام اخيها وزوجته، ولكن ما ان تتحصل على فرصة لوحدها حتى يصيبها الاكتئاب وجلد الذات!

اما ذاك المجرم فلم يكن له أثر نهائيا، وهذا ما زاد من قلق ميليسا وليس من راحتها، لقد اختفى بعد سجن مايكل وها هو مختفي ايضا عند اختفاء جاك، هل من المعقول ان يكون جاك هو وراء كل ذلك، هل هو من حاول قتلها ولذلك توقف عندما زج بمايكل في السجن! وهل اختفى المجرم هذه المدة بسبب انه هو نفسه جاك وهو شخصيا مختفٍ!

ماذا عن كل تلك التصرفات ومحاولة حمايتها! حتى انه وضع حارسه الشخصي ليحميها، يبدو ان كل ذلك كان مجرد خطة ليبقى قريبا ويطلع على كل شيء.
التفت حول نفسها كشرنقة وهي تضم ساقيها الى صدرها في اسلوب وقائي، وغامت في افكارها حول جاك!

كريستيان؛

جالس في وسط الاجتماع يناقشون امور العمل، ولكنه كان مشتت الذهن قليلا، فهو قد ذاق ذرعا من تصرفات سارة، انها تتصرف وكأنه هو المخطئ!
تستمر في تجاهله، ولكن الغريب انها ام تقم بأي خطوة من اجل الانفصال، هو لم يواجهها بشيء لا يعلم لما ولكنه يريد ان يسمع منها شخصيا.

"هل هذا جيد، سيد جراي؟".

رفع عينيه الى الموظف الذي كان يتحدث، رمش مرتين ثم وقف وقال: "سنعيد هذا الاجتماع في الغد، يجب على ميليسا ان تكون موجودة"

ثم انصرف، اتجه إلى مكتبه ولكن لم يكن الامر افضل بكثير هناك، اذ يبدو ان الافكار تلاحقه في كل مكان، طلب من السكرتيرة ان تؤجل اجتماعات اليوم الى اقرب وقت، اما اليوم لن يستطيع عقد اي اجتماع، ثم خرج من الشركة متوجها الى المنزل.

وهو يقود سيارته ابتسم ابتسامة جانبية مستهزئ عما يحصل، انها المرة الأولى التي يترك اجتماعا وفوقها يؤجل جميع اجتماعات اليوم، كان يستهزء بمن يفعل ذلك وها هو يفعلها!

وصل المنزل ودخل، كان المنزل هادئ، ادم في النادي وميليسا مؤكد في غرفتها، انه ليس موعد موعدته الى المنزل لابد انهم لا يتوقعون عودته، نزع ربطة عنقه بملل والقاها على الطاولة امامه وجلس على الكنبة، القى برأسه للخلف على مسند الكنبة واغمض عينيه.

قليلا وسمع صوت سارة تتحدث، يبدو انها تتحدث في الهاتف، ثم دخلت وهي لا تعلم ان كريستيان يجلس في صالة المنزل، كانت تتحدث بسرعة وتقول: "لا يا وائل سأفاتح كريستيان في الموضوع اولا، ولا اعتقد انه سيوافق بكل هذه السهولة"

تجمدت في مكانها عندما رأته جالس امامها، اسرعت في اقفال الخط بعد ان اخبرت محدثها انها ستهاتفه لاحقا.

كان يجلس بأريحية على الكنبة وهو يضع ساق فوق ساق ومتكئ برأسه على احدى يديه، ويده الاخرى فيها هاتفه يحركه بين اصابعه، وهي العلامة الوحيدة على توتره، اذ في هيئته يبدو هادئا جدا.

وقفت امامه وقررت انها الفرصة الامثل لتخبره كل شيء، بدأت بقول: "لقد كان المتحدث وائل، ابن عمي، اذا كنت تذكره."

اشتعل غضبه وغيرته، ايعقل ان تكون سارة بهذا البرود حتى تخبره انها ستنفصل عنه وتتزوج من ذاك الغبي! لا يمكن ان يكون ذلك صحيحا.

هب واقفا فجأة، ثن تبدلت الادوار في لحظة اصبح هو يقف امامها وهي جالسة في مكانه بعد ان القى بها بقوة على الكنبة.

قالت بتفاجئ: "كريستيان!"
كان ينطر نحوها بغضب شديد يتمنى لو كانت رجل لكان لكمه او ضربه.
"تبدين متفاجأة ياسارة؟ ام انا الذي يجب ان يتفاجئ!"

كانت تنظر له بإستغراب، جانب من كريستيان تراه للمرة الأولى، فهكذا هو الزواج في كل محنة تسقط اقنعة وتنكشف الوجوه، وحتى ان وصل بهما المركب بعد سنوات عدة الى بر الأمان ولا يزال الزوجان سويا، تصبح روحيهما عارية تماما امام بعضهما البعض، لا وجود للأقنعة، لا وجود للقيود، حتى تكاد تلك الارواح ان تتحد وتصبح روح واحدة!

ولكن كريستيان وسارة في هذه الاثناء ابعد ما يكون عن الارواح المتناغمة المتآلفة، خصوصا روح كريستيان التي ترفرف بإضطراب بين ضلوعه!

دلَّك رأسه بأصابعه بسبب الصداع، ثم نظر لها وقد تصدع جبل الجليد الذي لف به نفسه في الايام السابقة، ليكشف عن بركان يغلي ويميز من الغيظ.

لا تعلم سارة لما دب الخوف في قلبها، وهي التي علمت نفسها بسبب الظروف التي مرت بها، ان لا مكان للخوف داخل قلبها الا من ربها.

ينظر زوجها اليها بنظرات غاضبة، وهي تحاول بذل ما تستطيع لكي تناظره بالمثل، ثم اخذ فاجئها على حين غرة حين قال: "انا اعلم كل شيء يا سارة، اعلم ان عمك السيد خالد قد عرض عليكِ الاموال، وان تتزوجي من ذاك الغبي وائل!".

صدمت سارة ونظرت اليه برعب، فقد فهمت فيما يفكر كريستيان، وهذا آلمها جدا.

اكمل هو بدوره الكلام قائلا: "متى كنتِ ستخبرينني بذلك؟".
كانت كمن أكل القط لسانه، صامتة وكأنها مجرد صلصال اجوف لا روح فيه!

"اكنت احمق لعين الى هذه الدرجة!! استغليتي حبي لكِ لكي تحصلي على المأوى والاستقرار؟"

كسكين يمزق الجلد ببطئ كانت تأثير كلماته عليها، ولكنه كان غاضبا ومجروحا كنسر جارج تم تكبيله.
احيانا نؤذي من نحب ونعشق، ليس اهمالا او كرها بهم، انما ردة فعل بسبب جرحهم لنل وتأثيرهم علينا.
اغلب العلاقات تنتهي ليس بسبب عدم الحب، انما بسبب الكِبِرْ والجرح الغير متوقع من الحبيب، وسوء فهم الطرف الآخر.
فلا يمكن ان تُبنى علاقة بالحب فقط، المودة والرحمة والثقة اهم عناصر في الزواج!

لم تكد سارة تبلع صدمتها الاولى حتى قذف كريستيان في وجهها قنبلته الثانية: "كُنت وسيلة لا غير بالنسبة لكِ، رجل غني، مجنون بحبك، مواطن وتحصلين على اقامة ان تزوجته، وفوق كل ذلك مسلم!".

واخيرا حلت عقدت لسانها ونطقت وقالت: "هل تعتقد حقا اني تزوجتك لهذه الأسباب ؟"

نظرت نحوه وعيناها ممتلئة بالدموع بسبب الاهانة واكملت بصوت مختنق بسبب كتلة من شيء مر المذاق يسد حلقها، وكأن كلماته لها طعم: "انت مجنون غبي بالفعل! على فكرة ان لم تلاحظ كان يمكنني العيش مع خالي ميكائيل."

اتجه الى النافذة ووضع يده السليمة في جيبه والمكسورة جانبه، متجنبا عيناها الدامعة التي لطالما اسرتاه، وقال: "لا مبرر لكِ في اخفاء ما يعرضه عمك المزعوم لكِ الا اذا انكِ تريدين الموافقة!"

في غرفة اخرى داخل المنزل كانت ميليسا تستمع الى الاصوات المرتفعة والشجار.
امسكت رأسها تحاول السيطرة على الافكار التي تموج داخل عقلها، ولكن كانت وكأن احد ما يحاول جذبها الى دائرة من الطاقة السلبية والافكار السلبية.

وضعت يديها على اذناها وهي تضغط بقوة كبيرة تحاول سد اصوات الصراخ والشجار وايضا اصوات اخرى تموج في عقلها.

ولكن ذلك لم يفلح اذ ان الاصوات القوية لم تكن من الخارج، بل كانت من داخل عقلها، اصوات لكلمات دفنتها داخل قلبها ومشاعر لم تبح بها، لم تفرغ طاقة الحزن التي تسكن في قلبها.

بدأت تضغط على اذنيها اكثر وهي تقول: "اصمتوا، اصمتوا" ولكن الاصوات لا تصمت ولا تهدأ، اخذت تصرخ بأعلى صوتها: "اصمتوا اصمتوووووا!!"

لا يزال كريستيان واقف في مكانه ويتحدث بصوت هادئ مملوء بالحزن ويقول: "لست انا من يقبل الاهانة يا سارة، في النهاية تبين انكِ لا تختلفين عن فيرونيكا!"

كانت هذه اصعب ضربة ممكن ان يسددها زوج تلى زوجته، وقفت سارة كانت عازمة على الوصول اليه وصفعه عله يعود الى رشده.

ولكن صوت هز اركان المنزل اوقفها مكانها جامدة، صرخة اخرى قوية، ثم توالت الصرخات فإنطلقت مسرعة هي وكريستيان الى مصدر الصوت، غرفة ميليسا!

ما شهداه هناك كان يدمي القلب، ميليسا قابعة على الارض وهي تصرخ بصرخات هستيرية، وتقوم بسد اذنيها وتضربهما وهي تقول: "يكفي ارجوكم يكفي! انا اعلم انني غبية، اعلم انني لا استحق العيش ولا الحياة".
اسرعت نحوها سارة وجلست امامها، وكريستيان ايضا جلس واخذها في حضنه يحاول تهدئتها، ولكنها كانت تبكي ولا تسكت.
امسكت سارة يديها وقالت لها بعد ان بدأت تبكي معها بسبب شفقتها عليها ورثائها على نفسها: "ما الامر عزيزتي ميليسا؟ تحدثي معي ارجوكِ!"

نظرت لها وقالت: "لماذا انا فقط! لماذا يستمر الناس في خداعي، انا لم اعد اريد ان اعيش، ولماذا اعيش اساسا، لا أمل لي، لا يوجد أمل. كل من احبهم يبتعدون ويخذلون، الجميع كاذبون."

ثم بدأت تضحك بهستيريا مما اقلق كريستيان وزاد من بكاء سارة خوفا على صديقتها.

واستمر الوضع، تارة تضحك وتارة تبكي، الى ان على ما يبدوا انها فقدت السيطرة، بدأت تبكي دون توقف وتلقف انفاسها، لا احد يمكن ان يشعر بها، ان جسدها يؤلمها بسبب الخيانة، قفصها الصدري ضاق على روحها، او ربما روحها هي التي ذاقت ذرعاً بهذا الجسد الفاني وتريد ان تتحرر.

انقبض قلبها وتسارعت دقاته، بدأت تشعر بتخدر في اطرافها واختناق في انفاسها، رأسها ينبض وكأن الطبول قرعت فيه، عيناها تثاقلت ولسانها توقف عن الكلام، ارتخت بين احضان اخيها المرتعب عليها وصديقتها الدامعة، ثم فقدت الوعي.

ارتعب كريستيان على اخته كثيرا، حملها بين ذراعيه واتجه الى السيارة آخذاً اياها الى المشفى، وسارة خلفه مباشرة وهي تقول: "انتظرني لحظة لكي البس ثيابي سآتي معك."

وصلوا الى المشفى واخذ المسعفون ميليسا الى احدى الحجرات، ووقف هو وسارة ينتظران، كان القلق يتآكله.

تأخر الطبيب وزاد توتره، نظر الى سارة ووجدها صفراء اللون وكأن الدماء قد سحبت منها.
قال لها: "تبدين مرهقة، اجلسي الى ان يأتي الاطباء."

نظر حوله ووجد في نهاية الممر عدة كراسي جانبية فقال: "اجلسي هناك، سترين ما يحصل حتى من هناك."

لم تجادله فقد بدأت تشعر فجأة بالوهن الشديد والتعب، اتجهت مباشرة إلى حيث اخبرها، جلست في الكرسي وهي لا تستطيع التفكير في شيء، تراقب كريستيان يتحرك خلال الممر هنا وهناك في قلق، فُتح باب الغرفة وخرج الطبيب.

وقفت لتذهب وتستمع لما سيقوله، احست برأسها يدور عندما وقفت فأمسكت بالحائط. رأت كريستيان يتناقش مع الطبيب وهو غاضب، بدأت تمشي نحوهم وهي تترنح، فتوقفت ووضعت يديها على رأسها لتتوقف عن الترنح، ولكن حتى وهي واقفة كانت الصورة مهتزة وغير ثابتة امامها.

قالت بصوت متقطع او ما جاء على لسانها: "ك .. كري ....كريس .. ت ..يان!"

نظر كريستيان ناحيته زوجته بعد ان نادت عليه، فرآه على وشك السقوط على بعد خطوتين منه.

غريزيا اسرع نحوها، ومهنيا فعل الطبيب المثل.

وصلا اليها ثم قاداها نحو اقرب غرفة خالية، وما ان وصلت الى الغرفة حتى اغمي عليها هي الاخرى!"

اخرجوا كريستيان من الغرفة وبقي هو يدور في مكانه عاجزا لا يفقه ماذا يجب ان يفعل.

لقد اخبره الطبيب ان اخته تعاني من انهيار عصبي حاد، وعليهم تحويلها إلى طبيب نفسي فورا قبل ان تؤذي نفسها، فقد افاقت وحاولت قتل نفسها!

والآن سارة يغمى عليها لسبب مجهول، وقف وهو ينظر حوله في غضب، يكره شعور العجز، ويده المكسورة تؤلمه بشدة بسبب حمل ميليسا واتكاء سارة عليها.

لو يجد ذاك اللعين جاك الذي قلب حياتهم رأساً على عقب منذ دخلها لقتله بيديه العارتين.

سمع صوت يناديه من خلفه ويقول: "كريستيان".
وعندما التفت وكأن الله استجاب له في التو واللحظة، وجد جاك امام عينيه، انقض عليه وامسكه من ياقته ودفعه ناحية الحائط.

تفاجأ جاك من ردة فعل كريستيان فكان ذاهلا فاغرا فاه، لو كان للغضب لون او ضوء لكان خرج من كريستيان، هو في الاساس شخصية عصبية، ولكن الآن فات مراحل الغضب بمراحل عدة.

فالذي بين يديه هو المجرم الذي حاول ولا يزال يحاول ايذاء اخته المسكينة، التي ربما تدخل مستشفى الامراض النفسية بسببه.

نسي الم يده المكسورة وبدأ يلكم جاك على وجهه، وكان رد فعل جاك غريب جدا، مستسلم تماما لهجوم كريستيان وضرباته الموجعة.

تجمهر حولهم الزائرون والمرضى والممرضين والاطباء، يحاولون فك جاك من بين يدي كريستيان، كانوا كمن يحاول فك حيوان أليف من بين براثن تمساح عظيم هائج!

امسك ثلاثة من المسعفين كريستيان من كتفيه يبعدونه عن جاك الذي سقط ارضا مغشي عليه بسبب قوة اللكمات التي اخذها، وايضا بسبب الارهاق والهزل الذي كان يشعر بهما.

اخدوا كريستيان الى غرفة أمن المستشفى واخبروه انهم مضطرون الى اخذه الى القسم من اجل التحقيق، فهو تعدى بالضرب المبرح على جاك.

جاء اثنان من رجال الشرطة وطلبوا من كريستان مرافقتهم، وقد اخبروه انهم يعلمون منصبه في المجتمع وعالم الاعمال، ولكن لا يمكن لأحد ان يتناسى القانون.

لم يعترض كريستيان وانما رافقهم بهدوء، كل ما يهمه انه افرغ غضبه، لطالما تلقى عمود الملاكمة ذاك جام غضبه، وها هو يفرغ غضبه لأول مره على انسان.

طلب ان يقوم بإتصال، وتحدث الى حارس الامن سام بأن يحضر هو والسائق لكي يأخذوا سارة وميليسا الى المنزل. ثم اتصل بمحاميه.

جاء الطبيب وهو يبتسم وقال: "سيد جراي، اعتقد ان عليك سماع هذا الخبر قبل ان تذهب."

رفع كريستيان حاجبه، فتحدث الطبيب وقال: "مبارك لك سيد جراي، ان السيدة جراي حامل!"



جاك؛


في ذاك اليوم بعد ان تشاجر جاك مع ميليسا، قرر ان يبقى وحيدا لا احد يمكن ان يصل اليه، ولا يوجد مكان افضل من كوخ العم بن.

اخذ ملابسه وسيارته وانطلق الى هناك، قرر الغياب فقط يومان او ثلاثة حتى تهدأ الامور ثم يعود، اقفل هاتفه واتجه الى مقصده!

ولكن ما حدث تاليا كان غير متوقع وجعله يبقى اطول مما كان يظن.

عندما وصل كانت فترة الظهيرة تقريبا، كما هي العادة المكان هادئ جدا، توجه الى الكوخ ولكن لم يجد احد، كان باب الكوخ مفتوحا ولكن لا أثر للعم بن.

فتح الثلاجة ووجد زجاجة من عصير البرتقال، ان العم بن لا يشرب الخمر لذا لا وجود للخمور هنا، سكب العصير في الكأس ثم خرج للجلوس خارجا تحت الشجرة الكبيرة التي تظلل مقدمة الكوخ.

كان الهواء منعشا والسماء صافية بها القليل من الغيوم، العصافير فوق الاشجار تزقزق ويبدوا ان سنجابا قد قام ببناء بيت له في هذه الشجرة، ولما لا؟ فصحبة العم بن مريحة جدا.

ما اجمل العودة إلى الطبيعة والبقاء في الهدوء والعزلة بعيداً عن المتطفلين والفضوليين. رأى شاحنة العم بن قادمة من البعيد، افرغ محتويات الكأس في جوفه ثم ذهب نحو السيارة التي رُكِنَت بجانب الكوخ.

"اتيت لأزعجك قليلا!" قال جاك ذلك بصوت مرتفع وهو يبتسم للعم بن الذي كان ضعيف السمع.

"ساعدني اذا" قال العم بن ذلك وهو يشير الى كومة الحطب الموضوعة في مؤخرة الشاحنة.

انزلا سويا اخشاب الحطب ثم بدأ العم بن يجهز للغذاء، وتوجه جاك بسيارته نحو اقرب محل ليحضر بعض الحاجيات والاغراض، من طعام وشراب، كان الكوخ ببعد عن اقرب محل حوالي النصف ساعة بالسيارة، لذلك حرص جاك على شراء كل ما يحتاجه.

عندما عاد وجد العم بن ذاك الرجل المسن، يقوم بنفس الحركات التي كان يقوم بها عندما جاء في المرة السابقة، ولكن بعد عدة ايام لاحقة ادرك جاك انها ام تكن حركات عشوائية ولم يكن العم بن مصابا بالجنون!

وضع العم بن الغذاء على الطاولة في شرفة الكوخ وانشغل جاك بتنظيم المؤونة في المطبخ.

مرت الساعات هادئة ولطيفة على جاك، كم يحب الهدوء، حتى جاء الليل واستلقى على الاعشاب خارجا، يطالع النجوم والقمر، مستمتع بالوحدة.

هو منعزل هنا والعالم يخوض ويصدح في الصحف والمواقع عن حياته الاجتماعية.

احس حركة خلفه فوجده العم بن، فقال بصوت عالي ليكسر جمود الصمت: "الم تشعر بالنعاس!"

قال له العم بن: "لم تصرخ ايها الشاب؟ هل تظنني اطرشا؟"
جلس جاك معتدلا وقد اتسعت عيناه من المفاجأة وقال: "انت تسمع!!!"
ضحك العم بن وقال: "على مهلك يا بني، انا فقط ارتدي سماعة الاذن."

رمش جاك ثم قال: "ولم لا ترتديها دائما؟"
ضحك الرجل المسن ثانية وقال: "ولم سأرتديها؟ لكي تحدثني الحيوانات مثلا؟"

جلس العم بن ارضاً بجانب جاك.
تأمله جاك، رجل مسن قد غزا الشيب شعره ولحيته، والتجاعيد غطت ملامح وجهه، يمشي محذب الظهر قليلا بسبب كبره في السن، ولكن الطيبة تمسح فوق وجهه وتلطف من تعابيره.

قال العم بن وقد بدت الجدية التامة على ملامحه وهو ينظر نحو جاك بنظرات ثاقبة: "ارتديتها الليلة لكي اسمعك، اذ يبدوا عليك الهم والحزن."

نظر جاك للأسفل وكأنه يتذكر ما قد فعله ويشعر بالخجل، هل سيتفهم الرجل العجوز ما سيخبره به!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي