66

(العجوز ناردين)

نيكولاس؛

خرج واخيرا من المركز بنجاح، اخذ اول سيارة اجرة امامه وتوجه نحو الحديقة العامة.
نزل من السيارة واعطى الى السائق اجرته.

كان لديه القليل من المال الذي اعطته اياه والدته عندما قامت بزيارته، عندما اخبرها انه يشتهي بعض الشكولاطة والاشياء، ولكن لا يستطيع ان يطلب من الممرضات شرائها من اجله لأنه لا يملك مال، وفيفيان كأي ام ابنها في محنة فكرت فقط بعاطفتها.

بعد ان ذهب السائق جلس في الحديقة يفكر فيما سيفعل، من المؤكد انه لن يذهب إلى المنزل ولا المدرسة، فسيعيدونه الى هناك وهو اقسم انه لن يعود.

ظل جالس لا يعلم اين سيذهب، عليه ان يقرر قبل ان يتوجه الى اي مكان، فماله لا يكفيه لكي يذهب دون تخطيط مسبق لوجهته.

مر الوقت حتى جاء المساء، وكانت عجوز قصيرة قليلا وممتلئة تراقبه من بعيد دون ان يدرك هو ذلك، كان هذا مكانها المعتاد، حيث لا أنيس لها بعد وفاة ابنتها الوحيدة منذ عدة سنوات.

وقفت وفي يدها قطعة من الكعك المنزلي التحضير، جلست بجانبه وقالت: "هل انت جائع ايها الفتى، يبدوا وجهك اصفر يا بني"

نظر نيكولاس الى علبة الكعك الشفافة وبدأت بطنه تصدر اصواتا، فأومأ ايجابا، ناولته العجوز العلبة وقالت: "انا ناردين!"

قال نيكولاس وقد بدأ بأكل الكعك: "وانا نيكولاس"

نظرت له بتمعن وهو يأكل فسألته: "لم لست في منزلك؟ اذ يبدو انك جائع جدا."

ارتبك نيكولاس ولم يعرف بم يخبرها، فكذب وقال: "في الحقيقة، لقد جئت لزيارة اقارب لي فأنا لست من هذه المدينة، ولكن بعد ان وصلت اتصلت بهم ووجدت انهم اضطروا الى السفر الى مكان ما وسيعودون بعد عدة ايام."

قالت العجوز بتفكير: "اممم، تبدو فتى جيد، تستطيع المبيت في منزلي ريثما يأتون اقاربك مقابل ان تنظف لي حديقتي الكبيرة."

قال نيكولاس بغير تصديق: "حقا؟".

اومأت العجوز ايجابا ووقف هو سعيدا يقول: "هيا اذا سيدتي، فأنا جائع واريد النوم والاستحمام."

ابتسمت بسعادة فيبدو انها ستحضى برفقة مسلية هذه الايام لتلهيها عن وحدتها القاتله.

اخذ حقيبته ومشى بجانبها فرحا فقد حلت مشكلة اقامته لعدة ايام.

كان منزل ناردين ليس ببعيد عن الحديقة العامة، مشوا سيرا على الاقدام لمدة بسيطة ثم وصلوا.

منزل مرتب وهادئ، استقبلهم قط كبير الحجم واخذ يلعب بجانب قدمي السيدة العجوز بفرح ما ان رآها.

ولكن نيكولاس ليس مولعا بالقطط فتجنب لمسه او اللعب معه.

قالت العجوز ناردين: "انت لا تحب القطط!"
ابتسم بإرتباك خشي ان تغير رأيها ان علمت انه لا يهتم بهم.

"على العكس احبهم كثيرا."
ضيقت عينيها وابتسمت وقالت: "اذا اذهب وحمم القط، وسأعد انا وجبة عشاء لذيذة لنأكلها."

قال بإرتباك: "احمم القط!؟ حسنا، ما رأيك ان تريني غرفتي اولا."

قالت وهي تتجه نحو المطبخ: "اول غرفة على اليمين، والآن اذهب وحمم القط!".

امسك نيكولاس القط وكان القط يصدر اصواتا ويتحرك بين يدي نيكولاس، ابتسم نيكولاس ابتسامة جانبية اذ يبدو ان الشعور متبادل بينه وبين القط.

توجه به الى الحمام وكانت هذه اصعب مهمة يقوم بها نيكولاس في كل حياته!

بدأ القط يهرب منه داخل الحمام ويركض في كل اتجاه، ثم يمسكه وهو يهرب مجددا، وضع عليه صابون خاص بالقطط، ثم هرب مجددا، بقي هكذا كلاهما في الحمام لمدة من الزمن، حتى سمع صوت العجوز ناردين وهي تقول: "العشاء جاهز."

وما ان سمع القط صوتها حتى ركض في الحمام يحاول الخروج، كان نيكولاس تعبا وجائعا، امسك القط بقوة وادخله تحت الماء لينزع عنه الصابون، وما ان انتهى حتى اصبح هو ايضا غارق في الماء.

خرجا الاثنان مبتلان وكأنهما كانا تحت المطر، ضحكت عليهم العجوز وقالت: "اذهب وغير ثيابك، ريثما جفتت القط ولنتناول العشاء بعدها.

اخذ حقيبة الظهر الصغيرة التي فيها فقط ملابس داخلية وبنطال وقميص وجوارب. كان اخذهم معه من المركز.

عاد وجلس الى المائدة وأكل الطعام بكل شهية، كان لذيذ جدا، حتى انه الذ طعام تذوقه في حياته، فدائما طعام الجدات لذيذ جدا ولا ينسى!


منزل اهل نيكولاس؛

كان التوتر سائد في الاجواء بين فيفيان وسميث، كانت هي منهارة بالبكاء وهو يكاد يفقد اعصابه.

لقد بحثوا في كل مكان اين عساه ان يكون ذهب هذا كل ما يفكران به. او ربما يكون مكروه ما قد حدث له!

"لو كنتِ تهتمين لإبنك مثلما تهتمين الى حفلات الاستقبال ومثلمها تهتمين لجودة مواد الزينة الخاصة به، لكما حدث ما حدث من الاساس!"

نظرت له من بين دموعها وقد استفزتها كلماته، كيف يقوم الآن وهي في أمس الحاجة اليه بولمها ووضح الحق عليها!

قالت بعصبية من بين دموعها: "وانت ماذا؟ الوالد المثالي؟ انت حتى لم تحضر معه حتى مباراة بايسبول واحدة بالرغم من علمك الشديد لحبه لها!".

قال بتهكم: "كنت اعمل من اجل ان تعيشوا في احسن مستوى ولا ينقصكم شي!"

قالت والعبرة تخنق حنجرتها ككتلة ثقيلة من الحجارة: "وانا؟ وانا ماذا كنت افعل؟ الم اكن اعمل مثلك بالضبط؟ ومن الذي اقترح دخول نيكولاس الى المدرسة الداخلية، الم يكن انت!؟"

مشط شعرة بأصابعه بعصبية وقال: "اقترحت ذلك بسبب انشغالك عنه!"

كان جدالا طويلا وجارحا ومرهقا لمشاعر كلاهما! كل واحد فيهم يخرج كامل غضبه واحباطه على الطرف الاخر ويلقي عليه اللوم علَّى ضميره يرتاح قليلا!

حاول الموجودين من اهاليهم تهدئة الوضع بينهم، ولكن الهوة التي ولدت بينهما كانت تزيد في كل لحظة وكل يوم فيه نيكولاس غائب!

مرت اسبوع كامل ونيكولاس لا يزال مختفي ولا أثر له نهائيا.

فقدت والدته قرابة نصف وزنها، ووالده لحيته النامية لم تحلق منذ عدة ايام!

فأصعب الاختبارات للعلاقات الزوجية عندما يكون الاطفال هم موضع الاختبار!


نيكولاس؛

كان الوضع عند نيكولاس هادئ، فهو يعمل في حديقة السيدة ناردين في الصباح، كانت تساعده احيانا بم تستطيع فعله، وترشده لم تريد ان تفعل في حديقتها.

وبعد ان يكمل عمله يجد انها جهزت له وجبة لذيذة، كان يأكل بشراهة كبيرة بعد ان يكون قد استخدم الكثير من طاقته في الحديقة.
وايضا بدأ هو وقط السيدة ناردين يعتادان على بعضهما البعض.

كان نوع حياة جديد كليا على نيكولاس، ولكنه لم يتذمر، حيث انه بعد انقضاء ليلته الاولى في منزل السيدة ناردين، استقل سيارة اجرة وتوجه الى ذلك الشاب الذي يبيع له المخدرات، واشترى بالمال الذي بحوزته كمية من الجرعات.

وها هو الآن يتناولها بإنتظام عبر الحقن، والمشكلة انه اصبح يتناولها بشراهة اكبر من ذي قبل، حيث ان جسده كان متعطشا كثيرا الى الجرعات.

اما السيدة ناردين فقد رأت فيه شاب طيب وذو قلب وروح نظيفين، كانت خبيرة في الناس واطباعهم وتصرفاتهم!

كلما تراه تذكر ابنتها التي توفت قبل سنوات عديدة، والى الآن لا تنفك تفكر فيها كل يوم وكل ليلة قبل ان تنام.

"انا ذاهبة الى محل المواد الغذائية، سأحضر لوازم الافطار."
قالت العجوز ناردين ذلك وهي تتجه نحو الباب، خرجت واقفلت الباب خلفها.

وضع نيكولاس الى القط افطارة ثم توجه إلى غرفته!

ترك باب الغرفة شبه مفتوح حتى يراقب ذلك القط اللعين ان فعل شيئا.

جلس على سريره تأمل الابرة التي اصبحت ملازمة لحياته، ثم غرزها في ذراعه اغمض عليه وهو يستمتع بم يشعر به.

ولكن السيدة ناردين نسيت ان تأخذ معها محفظة نقودها، لذلك عادت مسرعة وفتحت باب المنزل.
وما ان دخلت حتى استشعرت الهدوء والسكينة اللذان يلفان المكان، وجدت القط يأكل طعامه تحت الطاولة ولكن لا أثر لنيكولاس.

ذهبت الى غرفته وكانت على وشك فتح الباب بكامل اتساعه، ولكنها رأت من فتحتة الباب الصغيرة ما اذهلها.

كان نيكولاس جالس عالارضية ويغرس ابرة ما في ذراعه، وضعت العجوز ناردين كلتا يديها على فمها حتى لا يسمعها نيكولاس!

ادمعت عينيها ومرت ذكرى بعيدة في ذهنها، وقفت تشاهد نيكولاس وهو يؤذي نفسه بأبشع الطرق، يحقن جسده بالسموم دون معرفة العواقب انه حرفيا يدمر جسده.

وقفت العجوز ناردين متصلبة في مكانها لا تعلم ماذا تفعل، حتى تلك الذكريات التي لم تزرها منذ مدة، غزت كامل عقلها، احست بالوهن في عظامها.

اما نيكولاس فكان غارق في عالمه الخاص الذي اخذه من الواقع، يطفو به فوق السحاب، عالم مخاذع لا ذرة للصدق فيما يعرضه العقل لحظة الولوج اليه!

العجوز ناردين فقد أخذت قرارها و......
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي