77

(هل الحب والكره وجهان لعملة واحدة!؟)



كان يحمل حقيبته يمشي متجها إلى المطار وهو يعرج على قدمه لكي يعود إلى تركيا.

حقيقة قدمه التي تعرج لم تنقص من هيبته شيئا، فميكائيل ذو شخصية قوية منذ صباه.

ها هو عائد بعد أن اطمئن على ابناء اخته الراحلة، يشعر بأنه وأخيرا قد أوفى بعهده لأخته.

أول ما تزوجت سارة من كريستيان كان شديد الخوف من أن يكون قد إتخذ القرار الخاطئ!
فبعد كل شيء كان كريستيان رجل غني جدا وأيضا عاش حياة يسمونها الغرب بالتفتح، وما هي إلا إنحلال، قبل أن يدخل الإسلام.

كان ميكائيل خائف دائما من ألا يكون كريستيان قادرا على الإستمرار بنمط حياته الجديد، أو أن يمل بعد فترة ويريد فتاة أكثر تحررا.

ولكن بعد زيارته هذه ومشاهدة تعامل كريستيان مع سارة وخوفه عليها، وأيضا دمه الحامي فقد أحس ميكائيل بالإطمئنان، وأن سارة أختارت صح، أو أن لا علاقة للإختيار في الموضوع، هو الله عوضها ليسكنها ويحميها!

وعلاقة آدم وكريستيان أيضا رائعة، حتى والدي كريستيان كانا يحبان سارة وآدم كثيرا، لم يتركا سارة أبدا في منحتها بسجن أخيها.

سبحان الله الذي يسخر لك الحياة وإن كنت في بطن الحوت!

أخذ ميكائيل يفكر بعد أن ودع كريستيان وآدم وجلس في الطائرة، ما بينك وبين الله يا سارة، ليهيء لك الأسباب، كان دائما يستيقظ ليلا ويجدها تناجي ربها وتشكره وتحمده.

أغمض ميكائيل عينيه وهو يشعر بالراحة، ثم يفكر في زوجته ملاك وأطفاله، لقد اشتاق إليهم كثيرا، ولا يطيق صبرا لكي يلتقيهم!

--

شعور السعادة والخوف والغضب والشوق كلها مشاعر تتولد لدينا من تجارب الحياة، ما عدا الحب فهو شعور نشعر به لحظة ولادتنا، شعور يولد معنا وكأننا مخلقون من الحب!

الحب أعظم وأسمى المشاعر البشرية، ومنه تنبثق جميع الأحاسيس، فكم من حب تحول لكره، وكم من حب تحول لإنتقام!

فكم من محب إشتاق لحبيبه، كشوق الطفل لحضن الأمان لحضن والدته.
فإن غاب الحب من الحياة، بتنا دمى تتحرك بلا هدى.

فدائما ما كان الحب وراء كل الدوافع، الطيبة منها أو الخبيثة.

الانتقام كان دافعه الحب!
الخوف يكون على من نحب وممن نحب!
الشوق يكون لمن نحب!
الكره تكون شرارته الأولى بسبب الحب!

--

قلوب أبطالنا الثلاثة فيها دقة حب، حب صافي نقي وهو ما أخرجهم وسيخرجهم من الظلمات إلى النور.

فجيف أدرك خلال فترة سجنه، أن أساس كرهه لوالده حب، فهو كان يحسب أن والده لا يحبه، ولا يحب والدته، فنقم عليه بسبب عمق الحب الذي يكنه له.

آدم أيضا علم أن لكل إنسان في حياتنا درجة من درجات الحب، ولا يجب أن تطغى درجة حب على أخرى، ولن يحل محبوب محل محبوب آخر!!

فحبه لوالديه وشوقه العظيم لهما لن يحل محله أي حب في الدنيا، وأدرك أن حبه لسارة وغيرته من أبنائها ما جعله يضل الطريق، فعلق قلبه أخيرا بحب من لن يخدله ولن يتركه ولن يبعد عنه حتى بعد موته، حب الله الدائم الأزلي!

أما نيكولاس، فقد تعلم درسه بأقسى الطرق، علم أن النعم ستزول إن جحدتها، كان دائما يشكوا من انشغال والديه عليه، ولم يقدر ما يفعلانه من أجله ومن أجل أن يجعلاه يعيش حياة كريمة لا يحتاج لشيء!

ومن ناحية أخرى، تعلم كل من فيفيان وستيف أن الأهل أيضا تقع عليهم المسؤولية الأكبر، لا يجب أن يطغى أي شيء على مسؤولية الأباء والأمهات اتجاه ابنائهم، حتى وإن كان العمل من أجلهم، فبناء إنسان سوي وجيد الأخلاق في هذا العصر هي أعظم مسؤولية وأعظم عمل يمكن أن يقوم به الوالدين لأبنائهم.

وسارة، عرفت وأخيرا كيف تحتوي أخاها المراهق، فهو في مرحلة حساسة ويريد إثبات ذاته، وقررت أن تعطيه المساحة التي يحتاجها وأن لا تضغط عليه مجددا.

وأما كلوديا وتوماس ففهم كل واحد فيهما خطأه، ويعمل على إصلاحه، فالعلاقة الزوجية تؤثر على صحة الاطفال النفسية بشكل مباشر!

--

ذهب آدم وجيف لزيارة صديقهما نيكولاس، والذي طلب منهما أن يذهبا لزيارة العجوز ناردين وأن يطمئنا عليها!

وصلا أمام منزلها وطرقا الباب، فتحت لهما وكان الحزن باديا على وجهها.

لم يعد منزلها مشرقا مملوءا بالامل والدفئ والحنان كما اعتادوا عليه، كان حزينا كئيبا كصاحبته، وكأن كل شيء في المنزل شعر بها وحزن لحزنها.

"تفضلا يا أبنائي" قالت العجوز ناردين وهي تعطي للشابين إبتسامة حزينة.

جلسا وقد أحزنهما حالها، شعرت بهما وابتسمت وقالت: "صحيح أن ذاك الأصهب الجميل لم يعش في هذا المنزل سوى لمدة قصيرة، إلا إنه ملئ المنزل في هذه المدة البسيطة بهجة وحياة"

قال آدم: "أجل، نحن أيضا نفتقده، لقد ذهبنا إلى زيارته وهو الذي طلب منا أن نطمئن عليك من أجله!"

أدمعت عينا ناردين: "يسعدني أن لدي أبن وإن لم يكن من لحمي ودمي، يفتقدني ويشعر بحزني"

أومأ جيف وقال: "ليس لصلة القرابة علاقة بالحب، فها أنا لدي صديقين احبهما كثيرا، وأظن لو كان لي أخ لم يكن ليحبني كما يفعلون هم."

ابتسمت ناردين لحكمة الصبي وقالت:"صحيح معك حق، ولكن ما يحزنني إنني وجدت دليل برائته ولكن لم أستطع إثباثه"

نظر جيف وآدم لبعضهما بصدمة، دليل برائته!!

ثم إنهالا على العجوز بالأسئلة التي لم تدخر جهدا للإجابة عليها!

--

فيفيان وستيف؛

كانا متوترين كثيرا، خائفين من لحظة الحكم، وجاءت والدة فيفيان وزوج والدتها للوقوف إلى جانبها ومساندتها.

كانوا جالسين حول مائدة الطعام يتناولون وجبة العشاء، كانت فيفيان لا تشعر أنها ستستطيع الأكل فقط كانت تقلب في الطعام أمامها.

نظر لها ستيف وبدأ يطعمها بيديه، يحاول أن يخفف عنها رغم إنه لا يجد من يخفف عنه!

علقت والدة فيفيان وقالت: "على الزوج إن لم يوفر المال لزوجته أن يوفر لها الرعاية حتى لا تتركه!"

ثم ضحكت بصوت عالي وكأنها تقول نكتة ما.
إلا أن لا أحد من الجالسين ضحك لنكتتها، ورمقها زوجها بنهر.

-"ماذا بكم جميعا، كنت فقط أحاول أن أجعلكم تبتسمون."

وقف ستيف وقال: "لقد شبعت، لدي بعض الأعمال الإلكترونية عليا إنجازها"

ثم توجه بالحديث إلى زوج أم فيفيان وقال: "أرجوا أن تتناول عشائك براحتك، وما إن تنتهي أرسل لي لنلعب الشطرنج سويا."

ثم اتجه إلى خارج غرفة الطعام.

قالت فيفيان بصوت حزين يشوبه الغضب: "أمي! هذا الرجل الذي أحبه وأنا سعيدة جدا في حياتي!"

قال زوج والدتها بغضب: "أنا لا أعلم يا زوجتي العزيزة لما أحيانا أشعر بأنك عديمة المسؤولية!"

نظرة إلى زوجها بصدمة فهو أبدا لم ينهرها يوما بل كان يحبها بشكل مفرض ويدللها بشكل أفرط، كان حانقا منها حقا.
فقالت لتبرر نفسها: "ولكن أنا لم أفعل شيء، لقد مدحت رومانسيته!"

قال زوجها: "إن الرجل يحترمكِ كثيرا وهو يحب إبنتك بشكل كبير، ثم إنه رجل مسؤول وهو غني، ألأنه ليس بليونيرا تريد التفريق بينهما!"

نظرت نحو الأسفل ثم قالت: "لا أعلم أنا فقط خشيت عليها الفقر، فأنت كما تعلم عندما تطلقت من والد فيفيان عشت حياة صعبة وبائسة ولا أريد لها أن تعيشها."

قالت فيفيان بصوت حانق: "ماما! ابي رجل كريم ولكنك أنتِ من لم تقبل ماله بعد أن تطلقتما."

قال زوج والدتها: "أعتقد يا ابنتي أن تذهبي خلف زوجك، يكفي أنه يحمل هم إبنه، لا نريد أن نزيد همكم."

قالت فيفيان: "إن ستيف طيب، وهو لا يحمل في قلبه كرها أبدا، سوف أخبره أنك تنتظره لتلعبان الشطرنج"

ولم تنتظر فيفيان موافقة زوج والدتها، لا تريد أن تتأثر علاقة زوج والدتها بوالدتها بسبب هذه المشكلة، هي تعلم أنه رجل جيد، والرجال الجيدون أصبحوا قليلين في هذه الفترة.

دخلت ووجدت زوجها متكئ على الأريكة في غرفة مكتبه، فقالت ممازحة: "كنت أظنك تعمل؟"

ابتسم لها بحزن وقال: "لا أريد أن أغضب والدتك أمامك."

رفعت حاجبيها وقالت: "اتقصد إن لم أكن موجودة كنت ستغضبها"

جذبها إليه وقال: "أقصد أنا أحترمها لأنها والدتك، فإن لم تكن فلم أكن لأقبل إهانة من أي شخص على وجه الأرض!

"انهما ينتظرانك للعب الشطرنج"

ذهبا حيث كانت والدة فيفيان وزوجها جالسين، وكان التوتر واضحا بينهما.

جلس ستيف أمام زوجها وبدأ يلعب معه.

فجأة وقفت والدة فيفيان وقالت على نحو مفاجيء: "أنا آسفة، أنا أعلم إنك رجل جيد، ما كان قول ما قلته وخصوصا إننا هنا لكي ندعمكم، أنا حقا أسفة."

هنا ابتسم زوجها وكأنه هذا ما كان ينتظره.

أما ستيف فتفاجأ للوهلة الأولى ثم قال: "لا بأس، فأنا من أجل تلك الجالسة بجانبك أستطيع التحمل...."

--

للحب أنواع وأشكال، فهو ليس شكل محدد أو نمط معين يجب إتباعه، على العكس فلكل إنسان أسلوبه الخاص في الحب الذي يميزه عن غيره.

الحب شعور سامي وراقي ما لم نلوثه نحن!

وأجمل مشاعر الحب تلك التي تكون في القلوب البيضاء!

--

تحسنت علاقة كلوديا بأهل زوجها، حتى إن والد زوجها أصبح يحترمها كثيرا ويفضلها من أجل شجاعتها وحرصها على المحافظة على عائلتها.

وأصبحت أقرب لإبنها ويحكي لها دائما عن يومه وعن تفاصيل حياته.

قررت إنها ستفتح مشروعها الخاص لتشغل نفسها وتبني شخصيتها، وأيضا قررت أن تستمتع بفترة حملها هذا وتشعر بكل لحظة فيه!

إلا إن علاقتها بزوجها لم تتقدم ولم تتأخر، ليس إنه لا يحاول بل لأنها لا تريد.

هو يوميا يرسل لها الأزهار، التي تمنتها دائما منه، وأيضا يقوم بإحضار الإفطار لها إلى غرفتها في كل صباح، ويذهب معها لكل مراجعة لطبيب.

ولكن كل هذا لم يغفر له في قلبها، كل ما ترى تلك الصورة له مع المرأة في المطعم، وتذكر إنها انتظرته مثل الغبية وهو لا يفكر فيها.

تمقته كل ما لانت قليلا، لتذكر نفسها أنه ابتعد عنها شهر كامل وهي في عز حاجتها له!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي