69

(انكسار الأمل)



نيكولاس؛

احس بالتوتر الشديد بعد ان سألته العجوز ناردين عن اهله، وازداد توتره بعد ان رأى الجريدة، هل يعقل انها رأتها ولم تخبره!

هي لم تسأله مسبقا عن اهله، هل يا ترى هذه مجرد مصادفة!؟

كان يمشي متجها إلى الشاب الوغد الذي يبيعه المخدرات، سيسأله ان يعطيه شيئا على الحساب، لم يعد لديه ما يكفي، وايضا ليس لديه المال، عليه ان يبحث عن عمل ليجلب منه المال حتى يستطيع شراء المخدرات.

اخرج اسوار من جيبه، ونظر له مطولا، لقد استعاره من العجوز ناردين، وسيعطيها ثمنه ما ان يتحصل على عمل ويستطيع دفع تكلفته.

ان لم يشأ ان يعطيه على الحساب فسيعطيه الاسوار كضمان.

وصل وطرق باب شقة الشاب، كان يسكن في حي قديم يبدو وكأن الشمس والهواء لا يدخلانه، بعد برهة من الزمن فتحت له الباب فتاة ترتدي ثيابا سوداء، او تكاد لا ترتدي اي شيء، والسواد يلف عينيها بكحل اسود.

"هل كلارك هنا؟" قال نيكولاس بتوتر!

قالت الفتاة بصوت عال جعل نيكولاس يجفل في مكانه: "هناك فتى اصهب يبحث عنك!"

خرج كلارك وكان يتلفت يمنى ويسرى امام باب الشقة وقال بصوت منخفض يشبه الهسيس: "ادخل قبل ان يرانا احدهم!"

لم يهتم نيكولاس بذلك وكل ما كان يهمه ان يأخذ حاجته ويرحل بسرعة.

دخل مع كلارك الى شقته السيئة التهوية، كانت الابر ملقاة في كل مكان، والرائحة وكأن فأر قد مات في المكان.

"اريد بعض الجرعات، ولكن سأؤجل الدفع لمدة بسيطة!"
قل نيكولاس مباشرة، فهو يود ان يخرج من هذا المكان الذي تصدر منه روائح نتنة للغاية!

"لقد رأيت صورتك على التلفاز، انهم يبحثون عنك"
قالت الفتاة.

نظر لها نيكولاس وأضاف كلارك بإبتسامة جانبية: "هل اكتشفوا امرك؟ لقد هربت اليس كذلك!"

اومأ نيكولاس برأسه مجيبا بصمت فقال كلارك: "ابن تقيم؟ لا استطيع ان اضمن واعطيك بضاعة وانا لا اعلم اين تقيم حتى!"

اخبره نيكولاس عن مكان اقامته فهو يريد الخروج مسرعا.

فكر كلارك قليلا ثم اعطى لنيكولاس كمية صغيرة، فإحتج نيكولاس قائلا: "ولكن هذه لن تكفيني حتى يومان!"

قال كلارك: "اسف يا صاح، ولكن الرجل الذي يمولني بالبضاعة يضغط علي كثيرا هذه الفترة، لا يريد ديونا"

اخرج نيكولاس الاسوارة من جيبه وقدمها الى كلارك وقال: "هل تفي هذه بالغرض؟ ارهنها لديك حتى احضر المبلغ، ولكن ارجوك الآن اعطني البضاعة لأذهب."

ناوله البضاعة وخرج نيكولاس، كان يرتدي قبعة وكمامة طبية حتى لا يتعرف عليه أحد، فمظهره المميز الذي لطالما احبه، الآن بات شيئا مقلقا، فأي احد سيتعرف عليه.

اتجه الى المنزل ووجد العجوز ناردين جالسة وحيدة ويبدو عليها الحزن، جلس بجانبها يسألها ما سبب حزنها فقالت: "لقد اضعت اسوارة كانت هدية من زوجي في يوم زفافنا، يبدو انني اصبت بالزهايمر"

صدم نيكولاس وتجنب النظر الى عينيها، فتأكدت حينها انه من اخذها، ابتسمت له وامسكت يده قائلة: "ولكنها ستبقى محفورة في ذاكرتي وان ضاعت مني بسبب الزهايمر."

نظر لها نيكولاس بخجل ثم قال وهو لا يكاد يطيق نفسه: "سأذهب لأشاهد مباراة بيسبول."

ابتسمت له بحنان فهي تعلم انه كان سيسرق شيء ما من المنزل، ابنتها فعلت ذلك مرارا وتكرار لكي تشتري المخدرات، في الحقيقة هذا لا يهمها، لا تهمها الاشياء المادية، هي تعلم انها ستموت قريبا، فهي شارفت على نهاية الثمانين من عمرها، وازداد المرض عليها.

"لا تتأخر على العشاء!"

اومأ برأسه واتجه ناحية الباب ولكنه توقف في منتصف الطريق وعاد اليها وقبل جبينها وقال: "حنانك علي لم أره حتى في والداي، لو كانت جدتي حية لن تحبني كما تفعلين!"

قال هذه الكلمات وخرج وهو متأكد انه لن ينسى هذه المرأة طوال حياته، لن ينساها ابدا!

وصل الى الملعب وقلبه ينطف ليلعب، ولكن هنا يعرفه الجميع، لقد تنكر جيدا. وعليه الا يثير الانتباه، فقط سيراقب المباراة التي تمنى سابقا بكل جوارحه ان يشارك فيها، انها مباراة مهمة.

وقف من بعيد ورأى صديقيه آدم وجيف، كم يشتاق اليهما، ولكنه لم يستطع الاتصال بهما بسبب انه توقع انه لابد من ان هواتفهم مراقبة!

بالرغم من انه اتى ليحضر المباراة الا ان نظره كان منصبا على صديقيه، اللذان كانا يشاهدان الجميع بعين ثاقبة وباحثة، يبدو انهما يبحثان عنه.

بعد ان انتهت المباراة خرج من الملعب وذهب الى الحمام، يفكر انه لابد من ان والديه الآن قلقان جدا عليه، ولكن لن يتصل فهكذا سيجدونه ويعيدونه الى ذلك المركز.

وما ان خرج من باب الحمام حتى احد ما جذبه من يديه بقوة وصلابه وثبته، والاخر اغمض عينيه، ركل ورفس ولكن لم يستطع ان يتحرر، وكان الممر خاليا من المارة، حيث كان الجميع في الملعب من اجل فوز الفريق!

وصلو به الى مكان منعزل واقفلو الباب خلفهم، رُفِعَت قطعة القماش من عينيه وتركه الذي كان يمسك على غفله، فإندفع الى الامام وقارب على السقوط الى ان امسك في الحائط، التفت يجد نفسه ينظر الى زوجين من العيون الغاضبة.

كانا جيف وآدم، ولكن لم هما غاضبان! اقترب منه جيف وامسكه من ياقته وهو يقول: "هل تعلم كم قلقنا عليك ايها الوغد!"

كان جيف نسخة طبق الاصل عن والده، نفس حركاته وكأنه هو.

امتلئت عيون نيكولاس بالدموع وقال: "اشتقت اليكم يا رفاق!"

نزع جيف يديه من على ياقة صديقه واقترب آدم ثم احتضن الثلاثة بعضهم في مشهد مؤثر عن الصداقة الحقيقية الخالية من المصالح، الصداقة التي لم تلوثها مصالح الحياة ولم تلونها قسوة الظروف!

الثلاثة لم يكن لديهم اخوة، فمن كان وحيدا يجعل له صديق، فالصداقة في بعض الاحيان ترقى لمراحل الاخوة، ولكن هي حالات نادرة، فليس كل صديق هو صديق!

قال نيكولاس وهو يتلفت يمنى ويسرى: "هل انتما بمفردكم!"

قال جيف بتهكم: "نعم، لا تقلق!"
آدم: "دعونا نذهب من هنا قبل ان يدخل احد ما."

توجهوا الى خلف الملعب حيث ما يكون مكان مهجور في العادة.

اول ما سأل نيكولاس عن والدته فأخبروه بحالها حزن بشدة، ولكن عندما اخبروه بحال والده استغرب كثيرا، قالو له ان لحيته نامية كثيرا وهو يدور بين الشوارع دائما ليبحث عنه، وانه اهمل عمله كثيرا!

تفاجأ نيكولاس من هذه المعلومات، واحس بالشوق والخوف على والديه، فقرر انه سيعود اليهم ولكن ليس اليوم، سيتصل بهما اولا.

"لا تبتأس، لست وحدك من يعاني من مشاكل مع والديه." قال جيف ذلك وصمت، فنظر له صاحبيه بتأمل حزين فقال: "لقد تركت المنزل، احتاج للبقاء معك."

اومأ له نيكولاس بالموافقة، فقال آدم مستنكرا: "أتتركان المدرسة! ماذا بكما؟"
رد جيف: "انها اول مكان سيبحثان فيه عني!"
قال آدم بحزن: "عليكما ان تكونا ممتنان لوجود ابوين لكما ومنزل!"

بعد بضع دقائق وقف آدم وقال: "عليا ان اعود الى المدرسة لقد وعدت السيد براون ان اعود في الموعد"

آدم؛

كان آدم لا يعلم ماذا سيخبر السيد براون، فهو لم يعتد ان يكذب عليه، طلب منه صديقاه ان لا يطلع احد عن مكانهما، لذلك رفض الذهاب معهم لمعرفة مكان المنزل، حتى لا يضطر للكذب على السيد براون.

عاد الى المدرسة ليتفاجأ بسيارة كريستيان امام المدرسة، ليست من عادته الزيارة المفاجأة، اصابه القلق ان كان شيء ما حدث الى اخته سارة فأتجه مسرعا نحو مكتب المشرف براون في مبنى السكن الداخلي.

طرق طرقة واحدة ثم فتح الباب ودخل، التف اليه كل من براون وكريستيان، نظر إلى وجه كريستيان فوجده يبدو غاضبا، فقال بسرعة: "هل هناك مكروه ما حدث الى اختي سارة!"

وقف كريستيان وقال: "من توم هذا الذي تتواصل معه وتلتقيه دائما!"

غضب آدم وقال: "هل تتجسس علي!؟"

تدخل السيد براون وقال بهدوء: "اهدأ يا آدم فكريستيان قلق عليك، انه في مقام اخيك الكبير!"

قال آدم والحنق في صوته : "لا ليس في مقام اخي الكبير، لا يمكن لأحد ان يغطي مكان احد من عائلتي!"

كان كلام آدم جارح لكريستيان في الصميم، فهو لطالما اعتبره اخاه الصغير واحبه كثيرا على هذا الاساس.

"وانا؟ الست من عائلتك يا آدم!؟" قال كريستيان ذلك وهو ينظر ناحية آدم بنظرات لوم وعتاب.

لم يجبه آدم انما اكتفى بالصمت، فتحدث كريستيان حديثا مطولا وتغاضى عن اشارة آدم له انه شخص غريب، اخبر آدم ان توم هذا لا يمكن الا ان يكون شخص سيء فماذا سيريد من فتى لم يتم حتى السن القانونية!

ولكن للأسف آدم لم يقتنع بهذا الكلام، واتهم كريستيان انه يريد افشاله وتحطيم معنوياته واهدافه، والكثير من كلام المراهقين الذي يقولونه بدون تفكير حقيقي، انما استنتاجات ضعيفة لا استناد لها لمصدر، فقط مشاعرهم من تتحكم بأرائهم!

خرج كريستيان وهو غضبان ومحبط في نفس الوقت، لقد توقع تجاوبا من آدم، ولكن هذا الفتى قد تغير كثيرا في هذه السنة الاخيرة.

اما آدم فقد توجه حانقا نحو غرفته، لا يعلم لم يصر كريستيان على التدخل في شئونه، الا تكفيه تدخلات سارة! وفوق هذا يقوم المشرف براون بإستجوابه حول نيكولاس واين ذهب جيف ولما لم يعد معه.

ولكن لم ينتهي الامر عند هذا، فبعد ساعة واحدة اتصلت به سارة تسأله عن توم هذا، حينها فقد آدم اعصابه تماما، خصوصا عندما اخبرته سارة انها قادمة اليه.

تسلل خارجا من المدرسة بعد ان اتصل بجيف، واخبره انه يريد الذهاب اليهم، استطاع بمعاناة التسلل خارجا قبل ان تصل اخته سارة بعد ان ترك لها ملاحظة في غرفته مفادها: "لا تقلقي، احتاج الى الابتعاد لعدة ايام"

عائلات الشباب الثلاثة؛

كان هذا كل ما كتبه، عندما قرأت سارة تلك الكلمات المكتوبة اصيبت بالذعر على اخيها، الى اين سيذهب انه لا يعرف اي احد.

وبعد عدة دقائق كان مكتب السيد براون ممتلئ بأهالي الفتيان الثلاثة، كانا فيفيان وسميث في حالة يرثى لها، وما ان سمعا ان آدم التقى هو وجيف بنيكولاس حتى اسرعا الى المدرسة ليسمعا اي كلمة لإبنهما تبلل رقيهما الجاف لمعرفة اي شيء عنه.

ولكن للأسف عندما دخلا صدما بصوت توماس المرتفع داخل المكتب وهو يصرخ ويقول لهم كيف انهم مهملون ليتركوا شاب صغير في عمر جيف يخرج بدون اذن والده!

كان الجميع في حالة فوضى وتوتر، لا احد يطيق كلمة من احد، حاول براون تهدئتهم ولكن بدون فائدة، خصوصا النساء الثلاثة.

"كله بسببك، انت من اهمله ولم يكن يهمه الا جمع المال." قالت فيفيان ذلك وعيناها المتورمتان بسبب كثرة البكاء تنظران بإتجاه زوجها.

ولكن للأسف لم يكن سميث في مجال يسمح له تقدير حالة زوجته النفسية، حيث ان حالته هو النفسية ايضا سيئة للغاية.

تبادلا العديد من التهم وحاول الجميع تهدئتهم ولكن بلا فائدة، وكان هناك من يستمع من خلف الباب بإستمتاع، فكل ما خطط له سار بطريقة افضل مما اراده.

فجأة سقطت فيفيان مغشي عليها، اسرع نحوها زوجها وحملها بين ذراعيه واتجه بها نحو المستشفى، كان كل من سارة وكريستيان وتوماس وكلوديا خلفهم في سياراتهم.

فحصها الطبيب وقال انها تعاني من سوء تغذية وهبوط.

ولكن ما ان اسيقظت حتى بدأت الصراخ مجددا على زوجها ورفضت العودة معه الى المنزل قائلة: "لن اعود الى ذلك القبر الذي تدعوه بمنزل حتى تعيد ازيا ابني!"

ولأول مرة كان سميث يبدو ضعيفا ومكسورا ويرى له حقا، قال وتو يحاول استلطافها: "ولكن قد لا يريد العودة، لقد بحثت في كل مكان بالفعل."

قالت وكأنه هو الذي يخفي ابنها: "اذا، في هذه الحالة ستكون خسرتنا نحن الاثنان!"

قالت ذلك والتفتت الى الجهة الاخرى من السرير ثم اضافت: "والآن، اريد البقاء بمفردي."

وقف سميث كالمصدوم ينظر لها لبعض الوقت ثم التف على عقبيه وخرج من الغرفة.


العجوز ناردين؛

كانت جالسة تحيك شيئا ما فهو هوايتها المفضلة، الى ان رن جرس الباب، استغربت من عساه سيكون فنيكولاس معه مفتاح باب المنزل، اتجهت وفتحت الباب.

كان الطارق هو نيكولاس ومعه شاب صغير في مثل عمره، حياها نيكولاس ثم عرفهم على بعضم البعض.
جلسوا جميعا في غرفة المعيشة ثم قال نيكولاس:

"ان جيف هو صديقي يا جدتي، هل يستطيع البقاء هنا مقابل الاعتناء بالمضاعف بالحديقة!"

ابتسمت لهما وقالت كلاما عكس ما تفكر فيه: "بالطبع يستطيع". كانت لديها العديد من التساؤلات ولكنها اجلتها.

تناولوا عشائهم في صمت الى ان رن هاتف جيف، كانت شاشة هاتفه مكسورة ونصفها اسود بسبب ان والده قد رمى هاتفه.

تردد ان يجيب في البداية ولكنه اجاب هاتفه في النهاية، وكان المتصل آدم الذي قص عليه بإيجاز ما حدث له ثم طلب منه العنوان حيث انه قادم اليهم.

بعد نصف ساعه كان آدم يقرع الباب، فتح له نيكولاس وجيف الباب مسرعين، وقفوا يتحدثون معه امام الباب وهو يقص عليهم كيف جاهد ان هرب من الحارس الذي وضعه كريستيان زوج اخته لمراقبته!

"هل انت هارب من اهلك ايضا مثلهما!"
التفت الثلاثة نحو مصدر الصوت خلفهم، كانت العجوز ناردين متكأة على عصاتها خلفهم وهي مبتسمة بحنان اليهم.

نظر آدم وجيف الى نيكولاس فنظر هو بدوره الى العجوز وقال لها: "جدتي! هل يستطيع صديقاي البقاء هنا يومان او ثلاثة!"

قالت وهي تتظاهر بالتفكير: "حسنا ولكن عليهم ان ينادونني جدتي كما تفعل انت، وايضا ان يهتما معك بالحديقة."

اومأ ثلاثتهم موافقين بمرح، وقال لها كل من آدم وجيف: "حاضر يا جدتي"

كانت ناردين سعيدة بهم كثيرا، فقد قتلتها الوحدة سابقا، والآن ها هو المنزل مملوء بالشباب. نكزت القط العجوز بعصاها وقالت: "انهض واستقبل الزوار ايها العجوز الكسول"

ضحك ثلاثتهم ثم جلسو في اريكة غرفة الجلوس، كانت صوت ضحكاتهم تتعالى في المنزل وهذا اشعر نادين بالسعادة الغامرة، سعادة وهدوء دوما ما تسبق العواصف والاهوال!

فلو كانو يعلمون ما ينتظرهم من مصائب لما جلسوا بهذا الاطمئنان والهدوء، يتسامرون ويمروحون.

فماذا ينتظر هذا الثلاثي يا ترى....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي