57

الجزء الثالث من رواية عبهرة.


(آدم، نيكولاس، جيف)


المطر غزير وهو امر غريب بأن يحدث في مثل هذا الوقت من السنة، خرج من مبنى المدرسة الداخلية وهو يركض بإتجاه سيارة الاجرة، ورغم ذلك فقد ابتلت ثيابه بماء المطر.

جلس بجانب السائق واعطاه العنوان، ثم اتكأ برأسه على مسند كرسي السيارة، اليوم عيد ميلاد توأم اخته فايث وأنجل، (الايمان والملاك).
لقد اتصلت به اخته تأكد على حضوره ليلة البارحة.

اوقف سيارة الاجرة ودخل محل الالعاب ليشتري هدايا للتوأم، انهما يبلغان من العمر 5 سنوات. بعد ان اختار العاباً مناسبة الى الولدان التوأمان، عاد الى سيارة الاجرة متوجها الى منزل اخته.

ما ان وطأت قدماه منزل اخته ودخل من باب المنزل، حتى تعلقت سارة وتوأميها في رقبته، هذه عادتهم وهذا استقبالهم الحار له دوما.

"تبدوا بصحة جيدة" قالت له سارة ذلك وهي تقرصه من خديه بمحبة.
انه في السنة الاخيرة من المرحلة الثانوية، ودخل الى سنته السابعة عشر من العمر. اصبح اطول من سارة واعرض.

لكن آدم شخصيته تغيرت كثيرا، لم يعد ذلك الطفل الذي كانه قبل عدة سنوات، او ربما لم يكن طفلا على الاطلاق!! فقد سُرقت طفولته، ذلك الجزء منا والذي يشكلنا كان قد سرق منه بسبب مجرمي الحروب!

دائما ما يشعر بغريزة الحماية نحو سارة، يتمنى ان يحضر لها النجوم والقمر ان كان يسعدها ذلك، لا ينسى تضحياتها من اجله ابدا.

ولكن رغم كل ذلك هو بعيد في مشاعره، منطوي لا يصارح حتى اخته بها.

"وانتِ ايضا يا اختاه، يبدين بصحة جيدة انتِ والتوأمين" قال ذلك وهو يتقدم ليقدم التحية الى الجميع؛ كريستيان ووالده ووالدته.

شاركهم الاحتفال وتقطيع الكعكة الى مدة من الزمن، وايضا شارك التوأمان المرح بعد ان رفع احدهما على كتفيه كعادته وركض به في الارجاء وصوت الطفل يصدح عالياً بسعادة، تبادلا الطفلان الدور على كتفي خالهم آدم.

"انزلهم ارجوك، لم يعودا خفيفان الوزن سيتعبانك، وهما ايضا لا يشبعان من ذلك " قالت سارة.
"لا عليك يا سارة فعنا استمتع باللعب معهما" قال ذلك وهو يضع فايث ارضا.

بدأ صوت رنين هاتف آدم يتصاعد من طاولة في زاوية الغرفة حيث يجلس كريستيان، اسرع آدم نحو هاتفه وسحبه من بين يدي كريستيان الذي قد اخذه ليرى هوية المتصل ويسلمه الى آدم، فقد كان كريستيان يتصرف وكأنه الاخ الاكبر لآدم، يشعر بأنه مسؤول عنه وانه اخاه الصغير.

سحب آدم الهاتف بسرعة وارتباك لم يشعر بهما سوى كريستيان، ولكنه تغاضى عن الامر ولم يعر للموقف اي اهتمام؛ اما آدم فقد نظر الى الرقم المتصل ثم وضعه على الوضع الصامت وقال لأخته: "عليا ان اذهب، كان الحفل جميل، اتمنى لهما طول العمر"

تفاجأة سارة التي كانت تتحدث مع الخادمة لكي تقوم بتجهيز القهوة، نظرت له وحاجباها مرتفعان وقالت: "كنت اظنك ستبيت معنا، لم العجلة تستطيع العودة في الصباح، سيوصلك السائق!"

اخذ معطفه المبتل قليلا واتجه نحو الباب وهو يقول: "سآتي لزيارتك قريبا مرة اخرى"
احتضنها وقبل رأسها وخرج!

وقفت سارة عند عتبة الباب بحزن، تنظر له يبتعد ويختفي شيئا فشيئا من امامها.
احست بيد كريستيان وهي تحيطها على كتفيها فقالت: "كان لا يستطيع انتظار عطلة نهاية الاسبوع لكي يحضر الينا، والآن لا يطيق صبرا للمغادرة!"

قال كريستيان بحنان: "لا عليك ربما سيلتقي ببعض اصدقائه"
سارة بقلق: "ربما ما كان يجب ان اوافق خالي والبي رغبة ادم في الالتحاق بالمدرسة الداخلية!"

في احدى الزقاق المظلمة والموحشة رغم انه لن يحل الظلام بعد! كان فتى اصهب الشعر في حوالي السابعة عشرة من عمره، يقف مرتبكا والخوف يتسلل الى قلبه رويدا رويدا، يتلفت يمنى ويسرى في انتظار احدهم.

"هل تأخرت عليك؟" قال صوت غليظ وهو ينظر الى الفتى المرتبك بإستهزاء.

نظر الفتى الاصهب ناحية صاحب الصوت ثم قال: "اعطيني طلبي وهاك مالك، لا اريد ان اتأخر!"
قال الشاب الاكبر سنا صاحب الصوت الغليظ: "على رسلك يا فتى فقد غلى سعر البضاعة"

نظر الفتى بحيرة ثم قال: "ماذا؟؟ ولكنك في كل مرة تخبرني ان السعر قد ارتفع"
"لا تضيع وقتي يا فتى هل تريد البضاعة ام اذهب؟"
مد الفتى الاصهب المال المطلوب واخذ البضاعة قائلا: "هذه آخر مرة ازيد لك السعر"

ضحك الشاب الضخم ذي المظهر المربك ورحل وتركه وكأنه واثق انه يستطيع ان يزيد ما يشاء على السعر، الاخر سيدفع!

على بعد شارعين كان صديقه في انتظاره، لقد اتصل به واخبره انه سيلاقيه خارجا ليعودا الى المدرسة الداخلية سويا.

وصل الى جانب صديقه آدم وهو يلهث ويقول: "هل تأخرت عليك؟"
ادم: "لا بأس، اساسا كنت قد التقيت بصديق قبل ان آتي اليك"

بدأ ادم وصديقه الاشهب نيكولاس بالسير نحو الطريق الرئيسي ليستقلا سيارة اجرة من اجل العودة الى مسكن المدرسة الداخلية.
نيكولاس: "هل كان عيد الميلاد جيد؟"

ادم: "اجل، رائع"
لم يكن ادم من الذين يتحدثون عن انفسهم وحياتهم الخاصة كثيرا.

كان يمشي وهو يلاحظ حركات صديقه الغريبة فهو يمشي ويتلفت حوله وكأنه ملاحق او خائف!
وصلا الى الطريق الرئيسي واوقفا سيارة اجرة، كان صديقه كثير الحديث عادة، ولكنه اليوم يبدوا هادئا.

توجه آدم الى غرفته مباشرة، الغرفة التي يتشاركها مع جيف، كان جيف ونيكولاس من اعز اصدقائه، كان يعرف جيف منذ ايام نادي الكشاف الصيفي، وكانا يلتقيان في نادي الكشاف ذاك كل صيف.

اما نيكولاس فقد تعرف عليه في المدرسة، وهو الصديق الوحيد الذي لديه من المدرسة بإستثناء جيف.

"لقد تأخرت، اعتقدت انك ستنام في منزل اختك!"

رمى آدم سترته على علاق الملابس ونزع حذائه ثم دخل وقال: "بقيت قليلا انتظر نيكولاس"

- "هل تعرف اين كان؟"
- "لا، لم اسأل!"

نظر له جيف بإرتباك وقال: "لا اعلم يا آدم ولكن اشعر ان نيكولاس وراءه شيء ما!"
آدم: "لا تبالغ، هو فقط يبدو شاردا احيانا"
نظر آدم الى سترته واضاف: "اوه، لقد نسيت هاتفي في سترة نيكولاس، لقد كانت سترتي مبتلة"

اتجه نحو الباب وخرج من الغرفة، تمعن جيف كثيرا في أثر صديقه، لا يعلم هل يخبره عن شكوكه نحو نيكولاس! ام يصبر حتى يتأكد، هو يعلم أن آدم اندفاعي وربما لن يجيد التصرف!

كان جيف هو الفطن الذكي بين الثلاثة، ولكنه يعاني من مشاكل عائلية، فوالده رجل غني ولكنه مدمن خمر، وكان دائما ما يعنف والدته لفظيا واحيانا اخرى جسديا، كان يضربها امام ابنها ولا يشعر بأي ندم، وما كان من جيف الا ان يدافع على والدته، حتى يجمعه والده معها ويضربهما سويا.

لطالما ترجته والدته ان لا يقوم بالدفاع عنها، خصوصا عندما كسرت ذراعه بسبب ذلك وهو في عمر الرابعة عشر، والمضحك ان والده حين اخذه الى المستشفى بدأ حزين على فعلته، ولكن ليس حزين بشكل كافي ليعترف على نفسه، حيث انه اخبر الاطباء ان ابنه قد سقط من الدرج وهو يلعب!

وانتهى به الامر في مدرسة داخلية برغبة من الدته، وحينها كان ولا يزال عصبي وعنيف، فقد تم معاقبته اكثر من عشر مرات بسبب اسلوبه العنيف مع زملائه، وكاد ايضا ان يتعرض للفصل لولا نفوذ والده القوية!

اسلوبه دفاعي جدا اتجاه من يحبهم، لذا هو يراقب تصرفات صديقيه، وقد لاحظ امر غريب على نيكولاس ولازال يبحث في الامر!

وفي غرفة نيكولاس دخل آدم الى غرفة نيكولاس دون ان يقرع الباب، ولكن ما ان فتح الباب حتى تفاجأ بردة فعل صديقه، حيث كان يقف امام سريره وما دخل آدم رمى شيئا ما تحت وسادته والتفت بسرعه وهو متوتر ناحية آدم.

قال آدم وقد لاحظ ارتباك صديقه: "ما الامر نيكولاس؟ هل هناك خطب ما؟"
رد عليه نيكولاس بعصبية: "الا تعرف كيف تقرع الباب؟"

ضحك آدم وخطى داخل الغرفة قائلا: "ماذا بك؟ هل رأيت شبحا!؟"
كان مظهر نيكولاس غريب وتوتره يزيد، فتوجه آدم ناحية السرير ليرى ماذا يخبئ صديقه عنه!

ولكن نيكولاس دفعه وقال: "ماذا تريد، انا اريد النوم الآن"

نظر له آدم باستغراب من اسلوبه ولهجته، فتقدم نحو الوسادة وحاول ان يمسكها ويرى ما تحتها!
ولكن على حين غرة اتته لكمة على فكه! فقد توازنه وترنح قليلا حتى امسك بالطاولة التي بجانب السرير، ليلتفت ويجد ان نيكولاس الهادئ والمرح في العادة هو من قام بلكمه!

"هل جننت؟" قال آدم ذلك وهو يود اعادة اللكمة الى نيكولاس، لكنه لاحظ ان صديقه ليس على طبيعته فقال له: "هل من خطب ما، نيكولاس؟"
"لا خطب، فقط اريد البقاء وحدي!"
فهم آدم انه يطرده فقال له: "حسنا كما تشاء"

في صباح اليوم التالي، كان ثلاثتهم في داخل الفصل الدراسي، وعاد نيكولاس ذاك الشاب المرح، كما هو عادة، فنيكولاس ابن لعائلة متوسطة الحال، يعمل ابويه بدوام كامل، وبالرغم من حالتهم المادية المتوسطة، الا انهم قاموا بتدريس ابنهم في مدرسة باهضة التكاليف، وهم متأملون فيه ان يصبح يوما ما ذا منصب او ما شابه.

وبم ان والديه كانا بدوام كامل فكان انسب شي يفعلانه هو وضع ابنهما الوحيد في مدرسة داخلية!
في الحقيقة هذه ليست المرة الأولى التي يضعان فيها نيكولاس ابنهما الوحيد في مدرسة داخلية، حيث انهم منذ طفولته كان اما في مدرسة داخلية او في نادي صيفي، حتى انه عندما كان طفل صغير كان يشعر احيانا انه نسي شكل امه وابيه!

انتهت الحصص الدراسية وتوجه ثلاثتهم الى استراحة الغذاء، قال جيف مباشرة دون اي مقدمات: "اذا يا نيكولاس، الا تريد ان تخبرنا ما بك؟"

تظاهر بأنه لا يفهم قصدهم وقال ضاحكا: "لا اعلم عما تتحدثون، اليوم انا سعيد ولا اريد ما يعكر صفو يومي". ثم نظر اليهما وهو مضيق عينيه واكمل يقول: "اذا! لا اريد مواضيع تافهة تعكر صفو يومي، او اترككما ايها البائسين واذهب"

كان نيكولاس هو الوحيد فيهما اجتماعي، عكس صديقيه اللذان لا يعرفان حتى ان يصنعا حديث بسيط مع الآخرين.

نظر كل من آدم وجيف الى بعضهما متفاجئين، ولكن جيف غمز لآدم وهو يسكته، سيحاول اكتشاف ما خطب صديقه على طريقته!

ثم بعد ذلك مر يومان والامور على ما هي عليه، الى ان يوما وهم يسبحون في المسبح رن هاتف نيكولاس، خرج مسرعا وجفف نفسه ثم امسك هاتفه ورد وهو متوتر، كان يتحدث بصوت منخفظ وينظر احيانا نحو صديقيه كي لا يلاحظا توتره وارتباكه!

انغمس نيكولاس في الحديث ويبدو عصبيا بعض الشيئ، فاستغل جيف ذلك ومشى ببطئ لكل يكتشف ويتيقن من الامر.

ولكن ماسمعه كان عكس تماما، فتح جيف عيناه بصدمة!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي