59

(عقاب آدم)

دخل الى مبنى السكن الداخلي بهدوء، لا يريد ان يلفت النظر اليه، ولكن من سوء حظه رآه المشرف.
وقف آدم في مكانه فهو متأخر عن موعد العودة الى السكن الداخلي بساعة كاملة، ومشرفون المبنى متشددون على هذه النقاط.

حاول ان يكون مرحا فقال: "مرحبا سيد براون، الطقس رائع خارجا والهواء جميل".

نظر له السيد براون مشرف السكن نظرة تفحصيه ثم قال: "هل ستنشد لي انشودة يا آدم! حسنا هذا لطف منك"
وضحك ضحكة جانبية ثم اضاف مستهزئا: "واعلم كم تحبي ايضا، ولكن ايها الشاب، كل ذلك لن يعفوك من عقابك في الغد".

احتج آدم وقال: "ولكن سيد بروان انا ...."
قاطعه المشرف بإشارة من يده وهو يمضي ماشيا الى، الامام ويقول: "في الغد يا آدم سنرى في ذلك في الغد، اذهب الى غرفتك الآن!"

تحرك آدم بخطوات متثاقلة نحو غرفته فهو يعلم ما ينتظره في الغد،

تحرك آدم بخطوات متثاقلة فهو يعلم ما ينتظره في الغد.
كان سيدخل الى نيكولاس والتحدث اليه، ولكنه تراجع عن فكرته قبل ان يطرق الباب بثانية، قرر ان ينظر في الامر مع جيف أولا.

فتح باب الغرفة ودخل ليجدها تسبح في الظلام الا من نور آتي من النافذة ومسلط بشكل خفيف على سرير جيف، وصديقه جيف مستلقي على السرير ينظر ناحية السقف وكأنه انتقل الى عالم آخر.

سمع تنهيد صديقه وهي تخرج من اعماقه وبها كمية الم وهم كبيران.
"لم تجلس في الظلمة؟" قال آدم ذلك وهو يحاول ان يكون مرح.

"لم تأخرت؟" قال جيف.
محاولا الهروب من الإجابة قال آدم: "ذكرتني، ان السيد براون يتوعدني غدا بعقاب، هل من طريقة لأتهرب منه؟".

قال جيف وابتسامة جانبية على شفتيه: "كما تفعل معي الآن؟".

في صباح اليوم التالي:
تبدأ الدروس في الصباح الباكر، يتوجهون من مبنى السكن الداخلي الذي يبعد ربع ساعة مشيا على الاقدام الى مبنى المدرسة، بعد ان يكونوا قد جهزوا أنفسهم وارتدوا الزي المدرسي المكون من بنطال باللون الأزرق الغامق وقميص ابيض وسترة بنفس لون البنطال منقوش عليها شعار المدرسة مع حذاء اسود.

ثلاثتهم يمشون متجاورين بصمت نحو المدرسة، حتى نيكولاس المرح في العادة كان صامتا جدا، يبدو مشغول البال.
ولكنه هو من قطع الصمت أخيرا وقال: "غدا عطلة نهاية الأسبوع وسوف اذهب لأقضيه مع والداي."
نظر كل من أدم وجيف الى بعضهما، يعلمان على ماذا يخطط نيكولاس.
قال جيف وملامح الحزن على وجهه وهو يتذكر والدته: "انا أيضا سأذهب لزيارة عائلتي."
يريد ان يطمئن على والدته من ذلك المجنون الذي يدعى والده.

لم يقل آدم شيئا فهو لا يريد الذهاب الى منزل اخته هذه العطلة كما يفعل عادة.
ليس لأنه لا يحبهم او لا يحب ان يلعب مع توأم اخته على العكس من ذلك، ولكن يريد بناء نفسه وشخصيته. يشعر في بعض الأحيان بالوحدة ويتمنى لو كان له منزلا وحضن امه الدافئ كما الجميع.
دائما ما يشعر ان شيء ما ينقصه، فهو من سلبت منه طفولته على حين غرة لا يستطيع الشعور بالأمان، دائما ما يشعر ان الجميع سيرحلون ويتركونه، حتى اخته سارة دائما ما يفكر انها ربما في يوم ما ستنشغل في حياتها واطفالها ولا تعود مقربة منه كما الان. ربما عليه بناء حياته وحيدا غير متعلق بأحد، الم يفقد والداه وهو في أمس الحاجة لهما.
عليه ان يحب من حوله ولكن لا يتعلق بأي أحد، فالجميع راجحلون وماضون في حياتهم، وكذلك هو سيفعل.

دخلوا الى مبنى المدرسة وكل اتجه الى فصله حسب تقسيمهم، ولكن قبل ان يتفرقوا جاء صوت من خلفهم يقول: "آدم، انتظر،"
التفت ثلاثتهم ليجدوا السيد براون واقف خلفهم فقال: "اذهبا جيف ونيكولاس الى فصليكما، وانت آدم اتبعني الى مكتبي."
جلس آدم في الكرسي قبالة السيد براون ولكن لم يتحدث.
فقال السيد براون: "انت بالطبع تعلم لما انت هنا، اليس كذلك؟"
اومأ آدم برأسه إيجابا ثم قال: "ولكن سيد براون انا لم اتأخر كثيرا، هي فقط ساعة تأخير."
قال براون بكل جدية وهو ينحني الى الامام على طاولة مكتبه: "بالطبع تستطيع تجنب العقاب آدم."
استغرب آدم ولكنه سعد بذلك، اذ دائما ما يكون العقاب صعب بالنسبة الى الطلاب الذين يتأخرون حتى يكونوا عبرة للطلبة الآخرون.

قال آدم: "وكيف ذلك؟"
ابتسم براون ابتسامة جانبية وضيق عيناه وهو يركز بصره نحو آدم ثم قال: "أخبرني اين كنت ولم تأخرت؟".
سحب آدم عيناه بعيدا عن المشرف ونكس رأسه الى الأسفل وقال: "وان كنت لا اريد ان أخبر ذلك الجزء؟"
فهم براون ان آدم لن يخبره فتظاهر بلا مبالاة وقال: "ستأخذ عقابك إذا"
كان السيد براون يحاول حماية الطلبة الذين في المدرسة، فهم تحت رعاية المدرسة وهم أيضا في مرحلة المراهقة.
قال براون: "إذا عقابك ان تنظف ساحة المدرسة اثناء استراحة الغذاء، ولكن انتظر..."
وقف وتوجه الى خزانة داخل حجرة المكتب واخرج منها زي عمال النظافة.
ناوله الى آدم وقال: "ارتدي هذا اثناء استراحة الغذاء وانت تقوم بعملك."
قال آدم وصدمة على ملامحه: "ولكن أستطيع فعل ذلك وانا البس ملابسي هذه."
قال براون وهو يفتح الباب لأجل آدم إشارة الى إنهاء الحوار.
اخذ آدم الزي ووضعه في حقيبته المدرسية وتوجه الى فصله.
مرت الحصص الدراسية بسلاسة الى ان جاء موعد استراحة الغذاء، التقى الثلاثة في حمام المدرسة، وأخبرهم آدم ان المشرف براون قد عاقبه بأن ينظف ساحة المدرسة اثناء استراحة الغذاء.
"اوه، هذا سيء اعتقد ان فيليب سيضايقك" قال نيكولاس.
"لو كنا نستطيع لكنا ساعدناك في ذلك، ولكن كما تعلم ان ذلك ممنوع."
ربت آدم على كتفي صديقيه وقال: "انتما تشعرانني انني ذاهب الى حرب ما، كل الامر هو ساعة من التنظيف"
قال ادم ذلك وهو يعلم ان الامر يتجاوز ذلك، فهو يعلم ان بعض من الطلبة سيقومون بمضايقته.
توجه نيكولاس وجيف الى الساحة وجلسا الى احدى الكراسي هناك يتناولان غذائهما، كانت الساحة مكتظة بالطلبة جميعا.
ارتدى آدم زي النظافة واخذ سلة ومجرفة وتوجه الى الساحة، وقبل ان يخرج لاحظ نظرات السيد براون وهو ينظر له بنظرات غامضة وكأنه يفكر في شيء ما.
وقف امام باب الساحة وتنفس بعمق ثم توجه الى داخل الساحة، بدأ بعض الطلبة بالنظر اليه، الان الجميع يعلم انه معاقب، المدرسة تتبع هذه السياسة حتى يكون المعاقب عبرة الى غيره، ولا يجرأ أحد على مخالفة القوانين.

بدأ جميع من يقف بجانبهم وينظف يقومون بالهمس فيما بينهم، ربما يقومون بالاستنتاجات فهم لا يعلمون لم هو معاقب ما عدا صديقيه جيف ونيكولاس.

مر الان منتصف الوقت منذ ان بدأ آدم مهمته، كان الامر يمر بسلام باستثناء النظرات الفضولية، ولكم هذا السلام بالطبع كان مقدمة لعاصفة قادمة، فدائما ما يسبق العواصف سلام غريب.
كان منكبا بمجرفته يجمع بعض الأوراق المتساقطة على الأرض، رأى ظلا يقف امامه فرفع رأسه ليجد انه فيليب، كان واقفا وهو عاقدا يديه فوق صدره وعلى وجهه ابتسامة سخيفة ويقف معه صديقه الاخرق ذي العضلات والشعر الأشقر.

تجاهلهما آدم واستمر يقوم بعمله في جمع الأوراق من على الأرض.
"هل تعلم ان هذا العمل يليق بك كثيرا"
تجاهله آدم ولم يجب، ولكن شخصية فيلين كانت شخصية مستفزة يحب السخرية من الغير والتسبب في الأذى.
"انا اقترح ان تترك الدراسة وتعمل في هذا العمل فأنت فاشل" قال فيليب ذلك وهو يسد الطريق على آدم.
"ابتعد من طريقي" قال آدم ذلك وهو يتجاوز فيليب ويضربه كتف لكتف عن عمد.
مر آدم وتجاوز فيليب، وهذا بالطبع لم يعجبه فقال بصوت عالٍ حتى يسمعه الجميع: "اهرب أيها المشرد فأنت جبان ولا تحب ان تسمع الحقيقة.
تنفس آدم بخشونة وهو يحاول ضبط نفسه، فإن قام بأي تصرف شغب الآن وهو معاقب سيضاعف عقابه.
خطى خطوة واحدة الى الامام وإذا بفيليب يقول: "اذهب أيها اليتيم المعتوه".
لم يكن من آدم الا ان سدد لكمة قوية الى وجه فيليب الذي أُخذ على حين غرة وسقط ارضا.

وعلى الجانب الاخر من الحديقة كان جيف يراقب بصمت، ونيكولاس مسك هاتفه يراسل أحدهم. وما ان حدث ما حدث قام جيف بنقز نيكولاس، وفي لمح البصر أصبحا يقفان بجانب آدم الذي كان فيليب يستعد لإعادة اللكمة له.
ثلاثتهم طوال القامة ولهم هيبة وحضور، جيف طويل ببشرة قمحية وشعر اسواد وحواجب سوداء من أصول إيطالية، آدم طويل ونحيف ذي بشرة قمحية كذلك وشعر بني من أصول عربية، واما نيكولاس أصهب بشعر برتقالي وعيون خضراء وبشرة بيضاء وهو من أصول أسترالية.
امسك نيكولاس يد فيليب التي كانت متوجهة للكم آدم، وجيف سدد له اللكمة.
اشتبك كل من جيف وفيليب سويا في عراك بالأيادي، واما صديق فيليب الأشقر فقد حاول مساعدة صديقه الا ان نيكولاس هاجمه وبدأ عراك معه.
وقف آدم بينهم يحاول تهدئة الوضع وابعاد المتصارعين عن بعض، الا انه كلما حاول ازدادوا تشابكا.
كان جيف يسدد لكمات متتالية وقوية الى خصمه فهو لا يعرف لغة الحوار، يعبر عن نفسه فقط بالضرب.
فقد فيليب القدرة على المواصلة فأتكئ على الشجرة التي بجانبه وهو يقول: " وواو، على رسلك يا فتى انني فقط كنت امزح."
تجمهر الطلاب حولهم وعمت الضوضاء الساحة مم لفت نظر المعلمين والاداريين.

"توقفوا جميعا." قال مدير المدرسة.
كان صوته حازما جهوريا فيه رنة الغضب، التفت جميعهم نحوه وكان عدد من المعلمين بصحبته بالإضافة الى المشرف براون.
"جميعكم الى مكتبي، فورا".
هذا كل ما قاله مدير المدرسة والتفت عائدا الى مكتبه.
نظر المشرف براون ناحية آدم وفي عينيه نظرة عتب.

اتجه ثلاثتهم الى مكتب مدير المدرسة وقد سبقهم فيليب وصديقه الى هناك.
ما ان دخلوا حتى قال المدير الذي كان يقوم بشيء ما على حاسوبه: "لا أحد يتحدث حتى آذن له بذلك."
كان السيد براون وقفا في احدى زوايا المكتب، لطالما كان يحب هذا الثلاثي وكان غالبا يحل مشاكلهم خصوصا جيف الذي يستخدم العنف كثيرا، دون ان يوصلها الى المدير.
ولكن من سوء حظهم اليوم فان مدير المدرسة موجود.

رفع المدبر رأسه ناحيتهم وادار جهاز الحاسوب ناحيتهم بعد شغل تسجيل الكاميرا.
"حسنا، هنا يبدوا كل شيء واضح، لقد بدأت انت يا آدم هذا الشجار، فأنت اول من سدد اللكمة."
ولكن ادم لم يجب فحتى ان قال الحقيقة فالمدير لن يصدق الا شريط التسجيل الذي امامه وسيعتبره الحقيقة المجردة.

تحدث جيف وقال: "ولكن يجب ان تتحقق لا ان ترى بعينيك فقط.
عدل المدير المسن نظارته فوق عينيه وقال: "ماذا يا سيد جيف، هل ستعلمني عملي؟"

تحدث براون وقال: "سيدي المدير ان جيف لم يقصد ذلك"
رفع المدير يده في إشارة الى براون لكي يسكت وتابع يقول: "سيد براون انت تتغاضى كثيرا على تصرفات هذا الشاب، لقد قام خلال هذا الشهر فقط بمشاجرة مع طلاب من المدرسة مستخدما العنف، انه فتى عنيف وعليه ان يتأدب."
ابتسم جيف ابتسامة جانبية باستهزاء، فهذه الكلمات ككلمات والده، دائما ما يخبره ان عليه ان يتأدب.
ولكن للأسف فهم المدير ابتسامة جيف بشكل خاطئ، وهذا زاد من غضبه.

"حسنا، حسنا، يبدوا ان هناك شيء ما مضحك هنا، لما لا تشاركنا يا سيد جيف بالأمر المسلي."
لم يجب جيف واكتفى بالصمت.
اما آدم فقد كان يشعر بتأنيب الضمير، فهو السبب في هذا المأزق الذي وقعوا فيه جميعا منذ البداية.
"سيدي المدير ربما أكون انا المخطئ وانا اتحمل كل هذا بمفردي فأصدقائي ليس لهم أي ذنب." قال آدم ذلك محاولا ان يتحمل هو وحده مسئولية ما قد حدث.

نظر المدير ناحية آدم وقال: "لا تقلق سيكون لك أيضا نصيب كبير من العقاب، ان هذه مدرسة منضبطة ويجب على الجميع احترام القوانين."
كان نيكولاس هادئ جدا وينظر مرة بعد مرة نحو شاشة هاتفه الذي في يده بقلق.

أرسل المدير فيليب وصديقه الى فصليهما مع تنبيه صارم ان كررا ذلك فسيكون عليه ان يقوم بإجراء صارم نحوهما كالذي سيقوم به الآن نحو زملائهم أدم وجيف ونيكولاس. فقد اعتبرهما غير مذنبين.
قام بإجراء اتصال داخلي للمكتب المجاور لمكتبه، كان مكتب السكرتيرة وطلب منها ان تطبع ثلاث أوراق استدعاء ولي أمر. قدم الأوراق لثلاثتهم وأخبرهم انه لن يقبل أي من ثلاثتهم بعد عطلة نهاية الأسبوع الا مع أحد ابويه.

نظر آدم بعيدا وهو يفكر انه لا يريد ان يطلب هذا من اخته وزجها، يجب ان يفكر في حل ما.

عاد ثلاثتهم الى مبنى السكن الداخلي وجلسوا في غرفتهم وكان نيكولاس أيضا معهم، لا يريد الذهاب الان الى غرفته حيث ان فيليب هو شريكه في الغرفة.

"ماذا سنفعل؟ لا اعتقد ان والداي سيتقبلان دفع أي غرامة مالية" قال نيكولاس.
رد عليه جيف بتهكم: "أي غرامة مالية أيها الغبي نيكولاس، نحن لم نحطم شيء سوى غرور ذلك الغبي."
قال آدم: "لا اريد ان اطلع اختي سارة وكريستيان عن هذا، ستكون سارة هستيرية كثيرا وسيقوم كريستيان بتقديم العديد من النصائح المملة، تلك التي يقولها البالغون."
قال جيف: "انت بالتأكيد لم تستمع الى المحاضرة التي يقدمها والدي وكأنه أكثر رجل مثالي في هذا العالم."

ضحك ثلاثتهم وقال نيكولاس: "ما رأيكما ان تأتيا عندي، فوالداي لن يهتما للأمر مادام انهم لن يدفعوا أي نقود، هما فقط سيقولان ’عزيزي نيكولاس لا تكرر ذلك’."
نام هذه الليلة نيكولاس في غرفة صديقاه، يتسامرون طوال الليل ويضحكون، يقلدون الشجار الذي حدث في الصباح وردّة فعل كل من فيليب ومدير المدرسة. غير مدركين للذي سيكون في انتظارهم خلال الأيام القادمة، فأحيانا الغفلة عن المصائب أفضل من ادراكها وانتظار حدوثها. فالنعم تكون في معظم الأحيان تكمن في الغفلة، الغفلة عن المصائب، الغفلة عن الأحقاد، الغفلة عن نوايا السوء تلك التي ترتد على أصحابها بحماية من الله، ودون ادراكنا لها.

فالغيب يبقى غيب لحكمة وليس عبثا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي